تعريف المحقّق العراقيّ لعلم الاُصول

تعريف المحقّق العراقيّ لعلم الاُصول:

وأمّا تعريف المحقّق العراقيّ(قدس سره) ( وهو(قدس سره) ركّز على دفع المؤاخذة الاُولى ) فقد ذكر(رحمه الله): أنّ القاعدة الاُصوليّة تكون قاعدة دخيلة في الاستنباط بنحو تكون نفس القاعدة حينما يستنبط منها حكم فقهيّ متعرّضةً للحكم أو لكيفيّة تعلّقه بموضوعه وناظرة إلى ذلك، فمثلاً قاعدة دلالة الأمر على الوجوب مفادها ابتداءً هو إثبات الوجوب، في حين أنّ وثاقة الراوي أو ظهور كلمة « الصعيد » لا يتعرّضان ابتداءً للحكم وإن كنّا نستفيد منهما في مقام استنباط الحكم، ولذا لو غضضنا النظر عن عالم الأحكام لا يبقى معنىً لقولنا: ( الأمر يدلّ على الوجوب )؛ إذ الوجوب هو حكم من

 

(۱) ولنا أن نقول: إنّه يكفي في اُصوليّة القاعدة استنباط الحكم الكلّيّ الإلهيّ منها ولو من دون تنجيز أو تعذير، وقاعدة ( الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه، أو لا يقتضي ) قاعدة يستنبط منها حرمة الضدّ أو عدم حرمته، وهي حكم كلّيّ إلهيّ. أو يقال: يكفي في اُصوليّتها انتاجها على بعض المبانيّ، وهذه القاعدة تنتج على مبنى تخيّل أنّ النهي الغيريّ ينجّز ويعذّر.

الأحكام، ولكن يبقى معنىً لقولنا: ( الصعيد بمعنى وجه الأرض ) أو ( زرارة ثقة )(۱).

ثُمّ إنّه قد يقال: إنّ هذا التعريف لا يشمل مثل بحث المفاهيم، أو المطلق والمقيّد، أو العموم والخصوص، لكنّه هو(قدس سره) تعرّض في المقالات لدفع هذا التوهّم ببيان: أنّ هذه الأبحاث تتعرّض لكيفيّة تعلّق الحكم بالموضوع(۲)، وفرّق بين هذه الأبحاث وبحث المشتقّ، حيث إنّ بحث المشتقّ لا يندرج تحت التعريف، ولذا لا يكون من الأبحاث الاُصوليّة(۳)، وحيث إنّ عبارته في المقالات مغلقة فكأنّ بعضهم لم يلتفت إلى المقصود، ولهذا أشكل عليه بأنّنا لم نفهم الفرق بين هذه الأبحاث وبحث المشتقّ الذي هو خارج عن علم الاُصول، فإنّ بحث المشتقّ أيضاً يتكلّم عن حدود الموضوع هل هو خصوص المتلبس فعلاً بالمبدأ أو أعمّ من ذلك مثلاً؟ وتوضيح مقصوده(قدس سره) هو: أنّ القاعدة الاُصوليّة حينما يكون لها تأثير في الحكم تكون متعرّضة بالمباشرة للحكم أو لخصوصيّة في الحكم، ومبحث دلالة الشرط على المفهوم مثلاً يكون له تأثير في الحكم حينما يكون الجزاء حكماً من الأحكام، وتكون القاعدة حينئذ متعرّضة لخصوصيّة في الحكم؛ إذ تتعرّض لكون الجزاء ـ وهو الحكم حسب الفرض ـ مقيّداً بحدود دائرة الشرط، وأنّه ينتفي بانتفاء الشرط، وهذا بخلاف البحث عن معنىً أفراديّ ككلمة « الصعيد »، فإنّه لا يتكلّم عن خصوصيّة في الحكم، وإنّما يتكلّم عن المعنى الإفراديّ للصعيد الذي لا يكون حكماً في وقت من الأوقات وإن كان البحث عنه دخيلاً في استنباط الحكم أحياناً، وأيضاً بحث الإطلاق حينما يؤثّر في الحكم، أي: حينما يُجرى  

(۱) المقالات، ج ۱، ص ٥٤، بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ.

(۲) نفس المصدر والصفحة.

(۳) نفس المصدر، ص ٥٥.

الإطلاق في موضوع حكم من الأحكام يكون مفاده هو: أنّ الحكم ثابت على طبيعي الموضوع بلا قيد، وهذه خصوصيّة من خصوصيّات الحكم، وكذلك بحث العموم، حيث إنّ مفاده حينما يتعلّق الحكم بالعامّ هو أنّ الحكم ثابت لتمام أفراد العامّ. وتمام النكتة هو: أنّ هذه الأبحاث لا تتكلّم عن تفسير معنىً أفراديّ ككلمة « الصعيد » وإنّما تتكلّم عن سعة أو ضيق ونحو ذلك في معنىً تركيبيّ قد يكون ذلك المعنى حكماً من الأحكام، وأمّا بحث المشتقّ فهو وإن كان يتكلّم عن حدود الموضوع، لكنّه يتكلّم عن حدوده بما هو معنىً أفراديّ، لا عن حدوده بما هو موضوع حتّى يرجع إلى البحث عن خصوصيّة في الحكم وكيفيّة تعلّقه بموضوعه، ففرق كبير بينه وبين هذه الأبحاث.

نعم، يبقى شيء واحد وهو: أنّ تطبيق التعريف على بحث العموم كما صنعه المحقّق العراقيّ(قدس سره) مبنيّ على كون أداة العموم مفادها شمول الحكم واستيعابه لتمام أفراد الموضوع، فهو مشى هنا على هذا المبنى، في حين أنّ هذا المبنى ليس هو المبنى الصحيح، ولا هو مختاره في محلّه، والصحيح الذي هو مختاره في محلّه هو: أنّ أداة العموم تجمع أفراد مدخوله تحت المدخول، وتعطي معنىً شموليّاً أفراديّاً قبل فرض طروء الحكم على الموضوع، إذن فلا يكون العموم متعرّضاً بالمباشرة لخصوصيّة من خصوصيّات الحكم، كما لا يكون متعرّضاً للحكم(۱).    

(۱) المحقّق العراقيّ(رحمه الله) يرى ـ حسب ما هو وارد في المقالات، ج ۱، المقالة الثلاثون، ص ٤۲۹ ـ ٤۳٠ بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ ـ أنّ أداة العموم تفيد استيعاب أفراد المدخول، وأنّ البدليّة والشموليّة تكون نتيجة كون المدخول نكرة أو جنساً، وأنّ الاستغراقيّة والمجموعيّة في الجنس تكون بكيفيّة تعلّق الحكم بالأفراد من

وعلى أيّ حال، يرد على تعريف المحقّق العراقيّ(قدس سره): أوّلاً: أنّه توجد هناك قواعد استدلاليّة للفقه تحمل نفس النكتة التي تعرّض لها المحقّق العراقيّ، وهي كون القاعدة متعرّضة للحكم مباشرة، فلو كانت هذه النكتة هي الميزان الكامل للتمييز بين المسألة الاُصوليّة وغيرها، لزم دخول تلك القواعد في علم الاُصول، إذن فلا بدّ من التفتيش عن نكتة اُخرى لإخراج هذه القواعد عن التعريف، وقد تكون تلك النكتة الاُخرى وحدها وافية بتمييز علم الاُصول عن غيره، مغنية عن النكتة التي ذكرها المحقّق العراقيّ(قدس سره)، كما سوف نبيّن فيما يأتي. ونحن هنا نذكر مثالين للقواعد الاستدلاليّة للفقه الداخلة في تعريف المحقّق العراقيّ(رحمه الله) للاُصول: ۱ ـ قيل: إنّ دليل إمضاء البيع يدلّ على ضمان المثل أو القيمة حينما لا يتمّ ضمان المسمّى لفقدان بعض شروط صحّة البيع، وذلك بدعوى: أنّ ذلك الدليل يدلّ على أصل الضمان وعلى كون الضمان بالمسمّى، فإذا انتفى ضمان المسمّى بدليل، بقي أصل الضمان ثابتاً على حاله(۱).    

كونها بنحو قائم بكلّ واحد من المصاديق مستقلاّ أو قائم بالمجموع. إذن فمن حقّه أن يقول في المقام: إنّه في باب العموم نفهم خصوصيّة الحكم من الوضع التركيبيّ من الكلام، فينطبق التعريف على باب العموم كما هو منطبق على باب الإطلاق.

على أنّه يكفي إدخالا لبحث في علم الاُصول انطباق التعريف عليه بلحاظ بعض المباني، وعلى مبنى كون العموم يدلّ على شمول الحكم لتمام أفراد الموضوع يكون العموم مبيّناً لكيفيّة تعلّق الحكم بالأفراد، وهي الكيفيّة الشموليّة.

(۱) كأنّه(رحمه الله) عدل عن النقض بقاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» إلى هذا البيان حذراً عن أن يجاب بأنّ هذا ليس استدلالا على فقهيّ، وإنّما هذا هو الحكم الفقهيّ ابتداءً.

وهذه القاعدة شبيهة تماماً بما قاله بعضهم في علم الاُصول من أنّه إذا دلّ الأمر على وجوب شيء ثُمّ نسخ الوجوب بقي الجواز، بتقريب: أنّ الأمر يدلّ على الجواز بالمعنى الأعمّ، وعلى كون ذلك الجواز في ضمن الوجوب، فإذا انتفى الوجوب بالنسخ بقي أصل الجواز ثابتاً على حاله. وكما أنّ هذه القاعدة تتعرّض بالمباشرة للحكم وهو الجواز، كذلك تلك القاعدة الفقهيّة تتعرّض بالمباشرة للحكم وهو الضمان.

۲ ـ يقال في فقه الطهارة: إنّه حينما يدلّ دليل على مطهّريّة شيء فهو يدلّ بالملازمة على طهارة ذلك الشيء، ولهذا قالوا: إنّ ما دلّ من الكتاب على مطهّريّة الماء يدلّ أيضاً على طهارته، وهذه القاعدة شبيهة تماماً بما يقال في علم الاُصول من أنّ الأمر بالشيء يدلّ بالملازمة على وجوب مقدّمته، أو النهي عن ضدّه، وكما أنّ هذه القاعدة الاُصوليّة تدلّ بالمباشرة على الحكم ـ أي: ناظرة إلى الحكم ـ وهو وجوب المقدّمة أو حرمة الضدّ ـ بناءً على أنّ وجوب المقدّمة أو حرمة الضدّ يعتبر حكماً فقهيّاً ـ كذلك تلك القاعدة الفقهيّة تدلّ بالمباشرة على الحكم، وهو الطهارة. وثانياً: أنّه ذهب المشهور ـ في قاعدة «أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه» ـ إلى أنّ الثمرة الفقهيّة لهذا البحث هي صحّة الضدّ العبادة وفسادها، ومبنيّاً على هذا الرأي المشهور نقول: إنّ هذه القاعدة لا تحمل الميزة التي يراها المحقّق العراقيّ(قدس سره) ميزاناً لكون المسألة اُصوليّة، وهي التعرّض للحكم بالمباشرة، فإنّ هذه القاعدة لا تتعرّض بالمباشرة لفساد العبادة أو صحّتها، وإنّما هذه القاعدة تتعرّض ( بناءً على الاقتضاء ) لإثبات النهي في العبادة، ثُمّ نرجع بعد ذلك إلى قاعدة «أنّ النهي في العبادة يقتضي البطلان»، فهذه القاعدة الثانية هي التي تتعرّض بالمباشرة للحكم، وهو البطلان. كما أنّ القاعدة الاُولى ـ بناءً على عدم الاقتضاء ـ إنّما

تتعرّض بالمباشرة لعدم النهي عن الضدّ، ثُمّ نرجع إلى إطلاق حكم الضدّ ونثبت به صحّته، وليست القاعدة الاُولى متعرّضة بالمباشرة لصحّته.

وثالثاً: أنّ القواعد المنطقيّة للاستنتاج تحمل نفس الميزة التي يراها المحقّق العراقيّ(قدس سره) ميزاناً لكون المسألة اُصوليّة، فإنّه حينما تكون النتيجة حكماً شرعيّاً تكون تلك القاعدة متعرّضة بالمباشرة للحكم، وتوضيح ذلك: أنّ الفقيه حينما يقول مثلاً: ( هذا ما دلّ على وجوبه خبر الثقة، وكلّما دلّ على وجوبه خبر الثقة فهو واجب تعبّداً، فهذا واجب تعبّداً )، فالقاعدة المنطقيّة الدخيلة في هذا الاستنتاج هي قاعدة الشكل الأوّل من القياس، وهي: أنّه متى ما كان الأصغر داخلاً في الأوسط، والأوسط داخلاً في الأكبر، فالأصغر داخل في الأكبر، والأكبر ثابت للأصغر، إذن فهذه القاعدة تتعرّض بالمباشرة لثبوت الأكبر للأصغر، فحينما يكون الأكبر حكماً من الأحكام ـ كما في هذا المثال ـ فقد تعرّضت القاعدة بالمباشرة لثبوت الحكم على الأصغر. فهذه كلّها نقوض على تعريف المحقّق العراقيّ(قدس سره) نحتاج لدفعها إلى إبراز نكتة اُخرى، ومعه قد تغنينا تلك النكتة عن النكتة التي يتبنّاها المحقّق العراقيّ(رحمه الله). ورابعاً: أنّنا نسأل: ما هو المراد من كون القاعدة الاُصوليّة ناظرة إلى الحكم الشرعيّ؟ هل المراد من ذلك كون القاعدة ناظرة إلى دلالة لفظيّة على الحكم من قبيل قاعدة « أنّ الأمر يدلّ على الوجوب »، أو المراد منه هو مطلق كون المحمول في القاعدة حكماً من الأحكام عند تأثيرها في الاستنباط؟ فإن كان المقصود هو الأوّل، خرج من علم الاُصول ما يكون من قبيل أبحاث الملازمات، كالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته، أو حرمة ضدّه، فإنّها ليست دلالات لفظيّة، وإن كان المقصود هو الثاني دخل في علم الاُصول وثاقة الراوي، فإنّ معنى كون

زرارة ثقة مثلاً هو: أنّ نقل زرارة له دلالة ظنّيّة على صحّة ما ينقله، وأنّه يصدق غالباً في نقله، فحينما يكون ما ينقله حكماً من الأحكام فوثاقته تدلّ على أنّه صادق في هذا الحكم بمقدار سبعين بالمائة مثلاً، فهذا من قبيل قولنا: إنّ الأمر ظاهر في الوجوب، أي: يكشف عن الوجوب بمقدار سبعين بالمائة مثلاً، فكما أنّ قاعدة « ظهور الأمر في الوجوب » قاعدة اُصوليّة كذلك قاعدة « أنّ زرارة يصدق غالباً في نقله » تكون قاعدة اُصوليّة. نعم، الصدق الغالبي لزرارة لا يكفي لإثبات الحكم ظاهراً على المكلّف ما لم تضمّ إليه قاعدة حجّيّة خبر الثقة، كما أنّ ظهور الأمر في الوجوب لا يكفي لإثبات الوجوب ظاهراً على المكلّف ما لم تضمّ إليه قاعدة حجّيّة الظهور.

بل بالإمكان أن يدّعى: أنّ علم الاُصول ـ بناءً على هذا التعريف ـ يتّسع بمقدار كلّ ما يوجد في العالَم من قواعد دخيلة في الاستنباط، فمثلاً بالإمكان صياغة قاعدة اُصوليّة توازي قاعدة دلالة الصعيد على التراب أو على وجه الأرض، وذلك بأن يقال: ( متى ما كان الصعيد موضوعاً لحكم ثبت ذلك الحكم على التراب أو على وجه الأرض ) وهذا معناه: أنّ الفرق بين القواعد اللغويّة، أو أيّ قاعدة اُخرى دخيلة في الاستنباط وبين القواعد الاُصوليّة إنّما هو فرق راجع إلى صياغة الكلام من دون وجود فارق جوهريّ، بينما ليس الأمر هكذا.
contact the developer