التعريف الرئيسيّ لعلم الاُصول

التعريف الرئيسيّ لعلم الاُصول:

التعريف الرئيسيّ الذي عرّف به علم الاُصول هو ما نُقِل في الكفاية من أنّه علم بقواعد ممهّدة لاستنباط الحكم الشرعيّ.

وقد اُخِذ على هذا التعريف ثلاث مؤاخذات:

المؤاخذة الاُولى: أنّ سائر العلوم الاُخرى التي نحتاج إليها في الاستنباط أيضاً تعطينا قواعد دخيلة في الاستنباط كقواعد الأقيسة في المنطق، أو وثاقة أشخاص في الرجال يؤخذ بما ينقلون وما إلى ذلك، فكلّ هذه الاُمور معرفة بأشياء وقواعد تقع في طريق الاستنباط.

وعلى هذا الأساس أضاف المحقّق النائينيّ(قدس سره) إلى التعريف قيد: كون تلك القواعد واقعة كبرى لقياس الاستنباط(۱) لا صغرى له؛ لكي يخرج به سائر العلوم الدخيلة في الاستنباط.

ويحتمل كون مراد الأصحاب من التعريف المذكور ـ وهو العلم بقواعد ممهّدة للاستنباط ـ هو نفس ما قاله المحقّق النائينيّ(قدس سره) أي: يقصد القواعد الكبرويّة للاستنباط.

إلاّ أنّ هذا القيد لا يُصلح التعريف؛ إذ يخرج به كثير من المباحث التي تدرج عادة في علم الاُصول:

منها: مباحث صغريات الظهور كظهور الأمر في الوجوب، والنهي في الحرمة، والشرط في المفهوم، والمطلق في الإطلاق، وما إلى ذلك؛ فإنّها جميعاً تنقّح

 

(۱) راجع أجود التقريرات، ج ۱ المشتمل على تعاليق السيّد الخوئيّ، ص ۳، وفوائد الاُصول، ص ۱۸، طبعة جماعة المدرّسين.

صغرى لكبرى حجّيّة الظهور، فتتمّ على أساس هذه الصغرى وتلك الكبرى عمليّة الاستنباط.

ومنها: مبحث جواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه، فإنّنا إن انتهينا فيه إلى عدم الجواز، فهذا معناه: أنّ الأمر والنهي المتصادقين على مورد واحد متعارضان كصلّ ولا تغصب مثلاً، فيكون ذلك صغرى لبعض كبريات باب التعارض كالكبرى القائلة بتقديم المطلق الشمولي على البدلي عند التعارض مثلاً، وبذلك يتمّ الاستنباط. وإن انتهينا فيه إلى الجواز كان هذا معناه: أنّ إطلاق الأمر وإطلاق النهي لمادّة الاجتماع محفوظان، وهذا ينقّح صغرى لكبرى حجّيّة الإطلاق. ومنها: مبحث: أنّ الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضدّه، أو لا؟ فإن قلنا بالاقتضاء فبما أنّ النهي عن الضدّ ليس حكماً فقهيّاً؛ لأنّه نهي غيري لا يقبل التنجيز والتعذير فالنتيجة الفقهيّة إنّما هي بطلان الضدّ لو كان عبادة مثلاً، فهذا البحث ينقّح صغرى لكبرى كون النهي في العبادات موجباً للبطلان مثلاً. وإن قلنا بعدم الاقتضاء كان معنى ذلك تتميم إطلاق أمر الضدّ مثلاً، فيكون صغرى لكبرى حجّيّة الإطلاق. وقد اتّضح بما ذكرناه: أنّ هذه المؤاخذة الاُولى بقيت إلى الآن بلا جواب؛ ولهذا عدل بعض عن هذا التعريف إلى تعاريف اُخرى. المؤاخذة الثانية: ما جاء في الكفاية ضمناً من أنّ هذا التعريف لا يشمل الاُصول العمليّة؛ لأنّها ليست بصدد إحراز الحكم، وإنّما هي تعيّن الوظيفة بعد فرض الشكّ في الحكم. ولهذا أضاف صاحب الكفاية إلى التعريف جملة ( أو التي ينتهى إليها في مقام العمل ) دفعاً لهذا النقص. إلاّ أنّ هذه الإضافة لا تفيد شيئاً؛ إذ المقصود إنّما هي معرفة الجامع المنطبق

على كلّ الأبحاث الاُصوليّة، أمّا لو فرض العطف بـ (أو) فبالإمكان أن يعطف كلّ مباحث الاُصول بـ (أو)، ويقال: إنّ علم الاُصول هو ما يبحث عن كذا، أو كذا، أو كذا، فلا نحتاج إلى تعريف معيّن.

وهذه المؤاخذة لها جوابان: الأوّل: ما عن المحقّق النائينيّ(قدس سره) من أنّه لا داعي إلى حمل الحكم في التعريف على الحكم الواقعيّ، بل نحمله على ما يعم الحكم الظاهريّ، والاُصول العمليّة تفيد في مقام استنباط الحكم الظاهريّ. وهذا الجواب إن تمّ في الاُصول الشرعيّة فهو لا يتمّ في الاُصول العقليّة كقبح العقاب بلا بيان؛ إذ ليست إلاّ تنجيزاً أو تعذيراً عقليّاً، ولا تكون حكماً شرعيّاً واقعيّاً أو ظاهريّاً. الثاني: أن يقصد باستنباط الحكم الشرعيّ إقامة الحجّة عليه، بمعنى التنجيز والتعذير، لا الاستنباط بمعنى الكشف والإحراز، وإقامة الحجّة بهذا المعنى كما تثبت بإحراز الحكم الواقعيّ أو الظاهريّ تثبت بالاُصول العقليّة أيضاً. المؤاخذة الثالثة: أنّ هذا التعريف يشمل القواعد الفقهيّة من قبيل قاعدة الفراغ، وأصالة الصحّة، ونفي الضرر والحرج، وقاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده، ونحو ذلك؛ فإنّها أيضاً تفيد أحكاماً شرعيّة. إلاّ أنّ هذه المؤاخذة أيضاً قابلة للدفع؛ وذلك لأنّ القواعد الفقهيّة: إمّا أن يكون مفادها إثبات الموضوع كما في قاعدة الفراغ والتجاوز، حيث يقول: ( بلى قد ركعت ) مثلاً، أو أصالة الصحّة الحاكمة باجتماع شرائط الصحّة، وإمّا أن يكون مفادها إثبات الحكم الكلّيّ الإلهيّ كقاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده، أو قاعدة نفي الضرر والحرج.
أمّا ما يكون مفاده إثبات الموضوع، فإخراجه عن التعريف واضح، وذلك بأن يقصد من استنباط الحكم استنباط الحكم الكلّيّ الإلهيّ، بينما هذه القواعد مضمونها إثبات الموضوع. وأمّا ما يكون مفاده إثبات الحكم، فأيضاً يكون خارجاً عن التعريف؛ وذلك لأنّ المفروض كون علم الاُصول علماً بقاعدة تستنبط منها أحكام اُخرى من قبيل حجّيّة خبر الواحد التي يستنبط منها وجوب الشيء الفلانيّ، وحرمة الشيء الفلانيّ، وهكذا، وأمّا قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده مثلاً فليست قاعدة تستنبط منها أحكام، وإنّما هي بنفسها حكم واحد وجعل واحد له مصاديق، فالحكم بالضمان في كلّ عقد من العقود الفاسدة التي يكون في صحيحها ضمان هو مصداق من مصاديق هذا الجعل الواحد، وليس حكماً مستقلاًّ استنبط من تلك القاعدة. وهكذا الكلام في نفي الضرر أو الحرج، فإنّه جعل واحد له مصاديق بعدد مصاديق الأعمال الضرريّة أو الحرجيّة من قبيل الصوم عند المرض، والوضوء عند المرض(۱). نعم نستثني من ذلك مورداً واحداً وهو حينما يكون نفي الحرج  

(۱) لا يخفى: أنّه لو فرض هذا جعلاً واحداً، واُخرج من علم الاُصول بهذه النكتة، فدليل البراءة أيضاً يدلّ على جعل واحد، ويلزم خروج البراءة عن علم الاُصول.

ولو قيل: إنّ دليل البراءة تستنبط منه جعول عديدة؛ لأنّه اقتطاع ظاهريّ من الجعول الإلزاميّة العديدة. وبكلمة اُخرى: إنّ نفي الإلزام يتعدّد بتعدّد الجعول المنفيّة، قلنا: إنّ نفي الضرر والحرج أيضاً اقتطاع واستثناءٌ واقعيّ من أحكام عديدة، فكلّ حكم يصبح ضرريّاً أو حرجيّاً ينفى بذلك، فيتعدّد ذلك بتعدّد المستثنى منه.

وقد ذكر اُستاذنا الشهيد(قدس سره) في أوّل بحث حجّيّة خبر الواحد الذي بحثه في زمان سابق

مفاده البراءة كما يقال في دليل الانسداد من أنّ الاحتياط التامّ حرجيّ فيُنفى بنفي الحرج، وهذا معناه ثبوت البراءة ولو في الجملة، فقاعدة نفي الحرج دخلت هنا في علم الاُصول، فإنّ البراءة من علم الاُصول؛ إذ هي تنفي جعولاً عديدة، فقد وقعت في طريق استنباط أحكام عديدة. وهذا لا ضير فيه؛ إذ أيّ فرق في اُصوليّة البراءة بين أن يكون دليلها « رفع ما لا يعلمون » أو يكون دليلها نفي الحرج؟

فقد تحصّل: أنّ المؤاخذة الثانية والثالثة قابلتان للدفع. نعم، بقيت المؤاخذة الاُولى بلا جواب؛ ولهذا عدل بعض إلى تعريفات اُخرى ونذكر في المقام تعريفين:  

من الدورة السابقة ( ونحن حذفناه هناك فيما طبعناه من التقرير ) في وجه خروج قاعدة نفي الضرر: أنّها ـ في الحقيقة ـ ليست قاعدة تستنبط منها الأحكام، بل هي تجميع أحكام إلهيّة واقعيّة كثيرة جمعها الدليل في عبارة واحدة.

أقول: لو كان هذا هو الوجه لخروج قاعدة نفي الضرر عن علم الاُصول، للزم أيضاً خروج البراءة الشرعيّة عن علم الاُصول، فهي أيضاً ليست قاعدة تستنبط منها الجعول، وإنّما هي تجميع لعدد من النفي الظاهريّ والاقتطاع الظاهريّ المتعدّد بتعدّد المقتطع منه.

والوجه الصحيح في خروج قاعدة نفي الضرر عن علم الاُصول، والذي به تختلف عن البراءة ما ذكره(رحمه الله) أيضاً في أوّل بحث خبر الواحد ( وقد حذفناه هناك ) وأعاده في بحث الاستصحاب من أنّ قاعدة نفي الضرر قد اُخذت فيها مادّة معيّنة من موادّ الفقه، وسيأتي في التعريف المختار: أنّ القواعد الاُصوليّة لا تؤخذ فيها مادّة معيّنة من موادّ الفقه. ولا نفسّر مادّة الفقه بما سيأتي هنا من اُستاذنا الشهيد(قدس سره) في القيد الأوّل من قيود التعريف المختار من تفسيرها بفعل معيّن من أفعال المكلّفين كالصلاة والصوم حتّى يقال: إنّه لم توجد في قاعدة نفي الضرر مادّة معيّنة، بل نفسّرها بالتفسير الذي ذكره اُستاذنا(رحمه الله)في أوّل بحث الاستصحاب من أنّ مقصودنا بموادّ الفقه: كلّ عنوان أوّليّ أو ثانويّ متعلّق لحكم واقعيّ، كالصعيد مثلاً الذي هو عنوان أوّليّ، وكالضرر الذي هو عنوان ثانويّ.

contact the developer