إنقلابات “حزب الله”
كُتب الكثير في الأسابيع الأخيرة عن الأزمة الأوكرانية. سوف أبقى في الكليات للبحث عن مشتركات منطقية في هذه الأزمة، وكيف يمكن أن تؤثر أو لا تؤثر في الفضاء الجغرافي العالمي، خصوصاً في فضائنا العربي. هناك مجموعة من العقد التي يتوجب التفكير في تفكيكها لتخليص الحقائق منها عن المتخيلات.
العقدة الأولى، هل احتمال انضمام أوكرانيا إلى الحلف الأطلسي هو مبرر كافٍ للحرب القائمة؟ أي منع صواريخ حاملة لقنابل ذرية قريبة من حدود الاتحاد الروسي هو الدافع الحقيقي للاجتياح؟ تلك حجة ضعيفة، لأن الجميع يعرف، سواء في موسكو أو برلين أو لندن أو واشنطن، أن الصواريخ أصبحت اليوم عابرة للقارات والمحيطات، وهي قد تنطلق من مكان قصي الى مكان بعيد آخر حاملة الموت والتدمير، فليس المهم من أين تنطلق! ولكن الأهم قرار الإطلاق، وهو قرار صعب إن لم يكن مستحيلاً في ضوء التوازنات القائمة، لأنه يعني ببساطة تدمير العالم بأسره! فليس هناك إذاً دافع ملح للغزو إن تم تبريره بذلك السبب!
العقدة الثانية، هي حجة أن هناك أقلية روسية في أوكرانيا “مضطهدة” تحتاج إلى من يدافع عنها. تلك الحجة التي استخدمت في كل من جورجيا وأيضاً شبه جزيرة القرم، كل لها ظروفها المختلفة جزئياً، يمكن أمامها لكل دولة لها أقلية من شعبها في بلاد مستقلة أخرى تدّعي انها أيضاً مضطهدة، ويجوز لها أن تحتل تلك البلاد المستقلة، بخاصة إن كانت موازين القوى لصالحها. وفي هذا إخلال جسيم بالمواثيق الدولية والأمن العالمي، فالصينيون مثلاً يشكلون حوالى 74 في المئة من سنغافورة، فهل يحق للصين القوية أن تحتل سنغافورة الضعيفة؟ كما أن أكبر أقلية عرقية في بريطانيا هم من الهنود، وهكذا في الاشتباك الإنساني والجغرافي في معظم مناطق الدنيا التي نعيش فيها اليوم متجاورة أو متباعدة.
العقدة الثالثة، هي العودة الى التاريخ انتقائياً، أي أن أوكرانيا كانت تاريخياً جزءاً من الإمبراطورية الروسية أو السوفياتية اللاحقة، ومعضلة العودة الى التاريخ تُدخل المجتمع الدولي في صراعات لها أول ولكن ليس لها آخر، فباكستان وبنغلادش كانتا دولة واحدة، وشمال السودان وجنوبه كانا دولة واحدة، والشام جزء من الإمبراطورية العثمانية والجزائر هي امتداد فرنسا الجنوبي، وهكذا في التاريخ البعيد والقريب!
العقدة الرابعة، إن الشعب الأوكراني بكل حريته اختار في استفتاء عام أن يكون في دولة مستقلة، كما حدث لبقية الأربع عشرة جمهورية التي استقلت بعد ضعف او تلاشي “اختر أي اصطلاح” الإمبراطورية السوفياتية، وقد وقّع عدد من المعاهدات بين روسيا وأوكرانيا ودول أخرى معلنة احترام الجميع لاستقلال أوكرانيا. أما العودة بالقوة الى التاريخ والجغرافيا، فذلك يفتح باب الشياطين على الجميع.
العقدة الخامسة، واضح أن الهجوم الروسي الذي كان متوقعاً يحتاج الى الكثير من التبرير كما أنه ليس كمثل غيره، “جورجيا وجزيرة القرم”، وكانت خطوات مرحباً بها بشكل عام في الداخل الروسي، إلا أن الأخيرة أثارت عدداً من الاحتجاجات في روسيا، وقد تتفاقم لأن المعدة الروسية الحالية لا تهضم بسرعة مقولات “إمبراطورية” بعد طول معاناة لها وتضحيات هائلة.
العقدة السادسة، كثير من المحللين ذهبوا الى المقارنة بين أسباب انفجار الحرب العالمية الثانية والأسباب التي تقدمها موسكو في قضية أوكرانيا… هزيمة ألمانيا في الحرب الأولى والثأر لتلك الهزيمة في الحرب الثانية! التبرير إن برلين في الحرب الأولى خضعت لمعاهدات مجحفة، وتنبّه اليها المنتصرون بعد الحرب العالمية الثانية، فساعدوا بدلاً من أن يستغلوا ألمانيا. وفي ملف ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي نرى بعض التفسيرات أن روسيا تم التعامل معها بشيء من قلة الكرامة، فقد حاولت حتى الانضمام الى الحلف الأطلسي بعد مباشرة سقوط الاتحاد السوفياتي، ولم تقبل؟ لذلك فإن القيادة القائمة في موسكو تحقق الفخر الوطني (المسلوب) وأيضاً ربما إعادة شيء من الإمبراطورية وبخاصة في بلاد لها هوامش مشتركة كبيرة مع الروس، كما تحقق الإدارة، في رأيها، تقدماً في الرأي العام المحلي.
كل تلك العقد المتشابكة تأخذنا الى احتمال واقع جديد، وقد نفترض أن الصين فعلت الفعل نفسه مع تايوان، أو إيران مع جيرانها في الغرب، أو تركيا مع جيرانها في الجنوب، فنحن اذاً أمام سابقة لها ما بعدها من تداعيات كبرى على السلم العالمي.
من هنا فإن إدانة الاحتلال لدولة مستقلة رغماً عن رغبة شعبها هو ما يتوجب الصدح به عالياً وإدانته في المحافل الدولية للتشهير به، بصرف النظر عن التحليلات العاطفية والتي يحملها البعض ضد الدول الغربية في الوقت الحالي.
أفق الاحتلال الروسي لأوكرانيا سوف يتضح لنا في الأسابيع والأشهر القليلة المقبلة، هي خطوة كان يمكن تحقيق الكثير من المصالح الروسية دونها، وبالطرق الدبلوماسية، فالتكلفة السياسية على روسيا سوف تتضح، وهي تكلفة قد تكون كبيرة، بخاصة وإنْ اتسعت مقاومة الأوكرانيين وتحول الأمر الى كفاح مسلح لدحر المعتدين! بجانب التكلفة الاقتصادية وما حققته روسيا حتى الآن من توسيع نفوذها في مناطق مختلفة قد تخسره، بخاصة في شرق المتوسط، سوريا، وفي عدد من بلدان أفريقيا من خلال شركة “فاغنر” المؤسسة العسكرية شبه الرسمية التي تحارب للدفاع عن المصالح الروسية في أكثر من مكان وتُكسب روسيا الكثير من النفوذ والمصالح.
الأزمة الأوكرانية تفرض علينا التفكير كعرب، في أن التوازن العالمي يتغير وأن العالم لم يعد يحكم بالقوانين والأخلاق، بل يتوجه لأن يحكم بالقوة الصلفة، وهي لا تخلو من البحث عن تبريرات تاريخية وإلحاقية أو مصلحية. ما يحدث في أوكرانيا ليس حدثاً عابراً ولا موقتاً، هو استدارة كاملة للنظام الدولي الذي ركب بعد الحرب العالمية الثانية… الدرس الأساسي فيه أن لا أحد يتعظ!