المبنى المختار في حقيقة الوضع

 

 

المبنى المختار في حقيقة الوضع:

وتحقيق الحال في المقام:

إنّ هناك سببيّة تكوينيّة، وقانوناً تكوينيّاً جعله خالق الكون الذي أوجد الطبيعة وأخضعها للقوانين المسيطرة عليها، وهو: أنّ الإنسان بحسب طبعه وفطرته التي فطره الله عليها متى ما أحسّ بشيء كان إحساسه بذلك الشيء سبباً لانتقال ذهنه إلى الصورة الذهنيّة لذلك الشيء، فإلاحساس بالأسد يوجب انتقال الذهن إلى معنى الأسد مثلاً.

وهناك سببيّتان اُخريان وقانونان ثانويّان تكوينيّان يحكمان على القانون الأوّل حكومة تكوينيّة، وكأنّهما توسيعان لذلك القانون:

الأوّل: أنّ الإحساس بما يشبه شيئاً سبب أيضاً لتصوّر معنى ذلك الشيء، فمن رأى صورة الأسد مرسومةً على الورق ينتقل ذهنه إلى معنى الأسد، وكأ نّ الإحساس بصورة الأسد إحساس بنفس الأسد.

الثاني: أنّ الإحساس بشيء اقترن في الذهن بشيء آخر اقتراناً مخصوصاً يكون أيضاً سبباً لتصوّر ذلك الشيء الآخر، فترى أنّ من أحسّ بزئير الأسد مثلاً انتقل ذهنه إلى معنى الأسد، وكأنّ الإحساس بزئير الأسد إحساس بنفس الأسد. وأقصد بالإحساس بصورة الأسد أو زئيره مثلاً ما يشمل انتقال الذهن إلى صورة

الأسد أو زئيره ولو من دون إحساس خارجيّ، وأقصد بالاقتران المخصوص أن تكون للاقتران خصوصيّة كمّيّة من قبيل كثرة اقتران زئير الأسد بالأسد، أو خصوصيّة كيفيّة بأن يكون الاقتران في ظرف مؤثّر وملفت للنظر كما لو اقترن سفر شخص إلى الحلّة مثلاً بمرض شديد، فمتى ما تذكّر السفر إلى الحلّة تذكّر المرض.

والبشر قد استفاد منذ أبعد العصور في مقام التفهيم والتفاهم من هذين القانونين الثانويّين، فمثلاً تراه يفهّم بعض المعاني بإيجاد صورته باليد وغيرها، فلكي يشير إلى كون فلان لابساً للعمامة أو طويلاً أو قصيراً أو غير ذلك يشير باليد بنحو يصوّر صورة شبيهة بذلك، فينتقل ذهن المخاطب إلى المعنى المقصود، وهذا تطبيق للقانون الأوّل. ولكي يفهّم معنى الأسد يزئر كزئير الأسد فينتقل الذهن من هذا الصوت الشبيه بزئير الأسد إلى زئير الأسد تطبيقاً للقانون الأوّل، ومن زئير الأسد إلى معنى الأسد تطبيقاً للقانون الثاني، فيحصل بذلك تفهيم المعنى المقصود، ولكي يفهّم كون فلان شجاعاً مثلاً يزئر زئير الأسد مشيراً إليه، فينتقل ذهن السامع من صوته إلى زئير الأسد تطبيقاً للقانون الأوّل، ومن زئير الأسد إلى الأسد تطبيقاً للقانون الثاني، ومن الأسد إلى الشجاع للشبه الموجود بينهما تطبيقاً للقانون الأوّل، فبهذا يحصل تصوّر المعنى المقصود وهو الشجاع. وإلى هنا أمكن تكوين لغة للبشر يتفاهمون بها من باب الاستفادة من القانونين التكوينيّين من دون أيّ تصرّف من قبل البشر في كبرى القانون بأن يوجد سببيّة ذاتيّة في شيء لم يكن سبباً، ولا في صغرى القانون بأن يوجد الشبه أو المقارنة فيما لا يكون شبيهاً أو مقارناً، وإذا تكرّر إيجاد صوت يشبه صوت الأسد للدلالة على الشجاع ـ مثلاً ـ أصبح بالتدريج نفس ذلك الصوت دالاًّ على الشجاع من دون توسّط دلالته على صوت الأسد، ودلالة صوت الأسد على الأسد، ودلالة الأسد على الشجاع، وذلك

لتكرّر المقارنة في الذهن بين هذا الصوت وبين الشجاع، فتوجد بهذه العمليّة صغرى لكبرى القانون الثاني، فيصبح هذا الصوت دالاًّ بكثرة الاستعمال على الشجاع. وهذا حقيقة الوضع التعيّنيّ الذي قالوا عنه: إنّه يحصل بكثرة الاستعمال، ثُمّ أصبح البشر بالتدريج متعوّداً على دلالة الأصوات على المعاني، وعلى الاستفادة من قانون المقارنة، فأصبحت الذهنيّة البشريّة مهيّأة للوضع بمعنى إقران لفظ بمعنى في الذهن للدلالة عليه، فيقرن الإنسان لفظاً بمعنىً من قبيل قرن لفظة « أسد » بمعناه، أو لفظة « حليب » بمعناه ونحو ذلك مرّة واحدة، لكنّه في ظرف مؤثّر من قبيل أن يقول: سمّيت ابني عليّاً، أو وضعت هذا الاسم عليه، أو اعتبرته عليّاً، وذلك أمام جماعة قد أنست أذهانهم من قبل بدلالة الأصوات على المعاني، والاستفادة من القرن، فيصبح هذا القرن في ظرف مؤثّر من هذا القبيل مُلفتاً للنظر، ويجعل اللفظ دالاًّ على المعنى، وتوجد بهذه العمليّة صغرى اُخرى لكبرى القانون الثاني، وهذا حقيقة الوضع التعيينيّ، فالوضع التعيينيّ والوضع التعيّنيّ كلاهما عبارة عن عمليّة إيجاد الاقتران بين اللفظ والمعنى حتّى يوجد بذلك صغرى من صغريات القانون الثاني، والفرق بينهما: أنّ الاقتران ـ الذي مضى: أنّه لابدّ أن يكون بنحو مخصوص حتّى يوجب الدلالة ـ يتمتّع في الوضع التعيّنيّ بخصوصيّة كمّيّة، وفي الوضع التعيينيّ بخصوصيّة كيفيّة، فروح الوضع والسبب الحقيقيّ للدلالة هو القرن بين اللفظ والمعنى في الذهن بنحو مخصوص(۱) سواء تحقّق

(۱) وفرق هذا البيان عن نظريّة بافلوف الشهيرة في قصّة دقّ الجرس أو نحو ذلك يمكن أن يفترض بأحد شكلين:

الأوّل: أن يقال: إنّ نظريّة بافلوف نظريّة فسلجيّة عضويّة، ونظريّة اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)

إنشاء وجعل، أو اعتبار وتنزيل، أو وضع للّفظ على المعنى، أو تحت المعنى، أو لا، فالتفتيش عن نكتة الوضع والدلالة في كون الوضع اعتباراً أو تنزيلاً أو غير ذلك ليس إلاّ مجرّد تلاعب بالألفاظ.

وقد اتّضح ممّا بيّناه عدّة اُمور: الأوّل: أنّ الصحيح في الوضع هو مسلك الواقعيّة، لكنّه لابدّ من بيان السرّ ونكتة الدلالة والوضع، وهذا ما صنعناه، لا مجرّد أن يقال: « إنّ الواضع يجعل اللفظ سبباً واقعيّاً للدلالة »، وليس روح الوضع عبارة عن أمر إنشائيّ حتّى يتكلّم

نظريّة سيكولوجيّة نفسيّة، فذاك يقول: إنّ الأثر المادّيّ للطعام ـ ويفترضه سيلان اللعاب ـ سرى إلى ما قارن الطعام لدى الكلب (راجع فلسفتنا، ص ۳۷۲ ـ ۳۷٤ بحسب طبعة منشورات عويدات ببيروت، واقتصادنا، ص ٥٤ ـ ٥۷ بحسب طبعة دار الفكر ببيروت). وإسراء ذلك إلى الفكر واللغة من قبل بعض الماديّين يعني: أنّ النشاط المخّيّ المادّيّ الذي يحصل بالإحساس بالشيء يحصل أيضاً بسماع اللفظ المقترن بذلك الشيء. وهذا المطلب لا دليل على صحّته، وتجربة بافلوف لا ينحصر تفسيرها بذلك، فبالإمكان أن تفسّر بأنّ سيلان اللعاب لم يكن أصلاً استجابة لذات الطعام المادّيّ بل كان استجابة للصورة الذهنيّة اللامادّيّة التي هي وراء النشاط المخّيّ المادّيّ، وبما أنّ صوت الجرس المقارن لتقديم الطعام أعطى نفس الصورة للذهن حصلت نفس الاستجابة؛ ولذا ترى أنّ ما يكون حقّاً نتيجة لذات المادّة كالموت بالنسبة للسمّ، أو الشفاء بالنسبة للدواء لا يسري إلى ما يقارن تلك المادّة من لفظ أو غيره، وأمّا اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) فإنّما قال بتماثل المتقارنين في خلق الصورة العقليّة الميتافيزيقيّة لدى الفكر اللامادّيّ.

والثاني: أن يفترض أنّ اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) لا يقول أصلاً بانتقال الأثر من شيء إلى ما يقارنه، وإنّما يقول: بأنّ التقارن الأكيد في الذهن يجعل تصوّر القرين سبباً للانتقال إلى قرينه من دون فرضيّة اكتساب أحد القرينين آثار قرينه الآخر، بينما نظريّة بافلوف هي نظريّة انتقال الأثر من القرين إلى القرين.

في أنّه هل هو تنزيل أو اعتبار؟ وأنّه هل يعتبر اللفظ نفس المعنى، أو أداة للدلالة على المعنى، أو فوق المعنى، أو تحت المعنى ونحو ذلك من العبارات والتلاعبات بالألفاظ؟ نعم، كثيراً ما يتّفق أنّ الواضع ينشئ شيئاً من اعتبار أو نحوه، فيقول بقصد الإنشاء: سمّيت ابني عليّاً، إلاّ أنّ هذه العمليّة لها جنبتان: جنبة الإنشاء، كأن ينشئ وضع اللفظ فوق المعنى أو تحته أو نحو ذلك، وجنبة إيجاد اقتران واقعيّ وحقيقيّ في الذهن بين اللفظ والمعنى بنحو مخصوص، والجنبة الثانية هي سرّ الوضع والدلالة دون الاُولى؛ ولذا قد تتمّ الدلالة على أساس الجنبة الثانية مع فقدان الجنبة الاُولى، كما لو سمع الطفل من اُمّه كلمة الحليب مقترنةً بتقديم الحليب له من دون أن يُنشأ أمامه شيء، أو يستطيع أن يتعقّل الإنشاء، فتتمّ في ذهنه الدلالة تارة بتكرّر الاقتران كثيراً، واُخرى بالاقتران مرّة واحدة أو عدداً قليلاً من المرّات إذا كان ذكيّاً، فمتى ما سمع كلمة الحليب انتقل ذهنه إلى معناه.

الثاني: أنّ الوضع يوجب الدلالة التصوّريّة للّفظ ولو سمع من جدار، ولا يوجب الدلالة التصديقيّة، وإنّما الدلالة التصديقيّة تكون وليدة اُمور اُخرى من ظاهر حال وقرائن أحوال ونحو ذلك، وهذا واضح على ما عرفت من أنّ روح الوضع عبارة عن الاقتران في الذهن بين اللفظ والمعنى، وإيجاد الصغرى للقانون الثاني من القانونين التكونيّين الثانويّين، فإنّ من الواضح: أنّ ذاك القانون مفاده إنّما هو انتقال الذهن من أحد المتقارنين إلى الآخر من دون دلالة تصديقيّة، ولا تعقل دلالة اللفظ على المعنى دلالة تصديقيّة إلاّ على مسلك التعهّد، حيث تعهّد الإنسان مثلاً بأن لا يتكلّم بالكلام الفلانيّ إلاّ إذا قصد المعنى الفلانيّ، فكلامه كاشف عن تحقّق ذاك القصد، وأمّا مجرّد الاعتبار كما هو المسلك الثاني، أو خلق سببيّة اللفظ واقعاً لانتقال الذهن إلى المعنى كما هو المسلك الثالث، أو عمليّة القرن

كما هو المختار في تعميق المسلك الثالث وتكميله، فكلّ هذا لا يعطي للّفظ الدلالة التصديقيّة، فإنّ مجرّد اعتبار اللفظ معنىً، أو اعتباره على المعنى، أو دالاًّ عليه بعد فرض كفايته لانتقال الذهن إلى المعنى لا ربط له بالتصديق بإرادة المتكلّم لذلك المعنى، وكذلك الإيجاد الواقعي للسببيّة في اللفظ لانتقال الذهن إلى المعنى، فإنّ هذا لا علاقة له بالكشف عن إرادة المتكلّم له، وعمليّة القرن أيضاً إنّما توجب انتقال الذهن من أحد المتقارنين إلى الآخر، لا الكشف عن شيء.

وقد ذكر السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ: أنّ الدلالة التصوّريّة في اللفظ المسموع من الجدار لا يصحّ فرضها دلالة وضعيّة؛ لأنّ الهدف من الوضع إنّما هو التفهيم والتفاهم بين العقلاء، وأمّا الجدار الذي لا يعقل ولا يريد شيئاً، فمدّ الوضع إلى ما يسمع منه لغو ولا فائدة فيه، ويكون خلاف حكمة الواضع(۱). وأنت ترى: أنّ هذا البيان لا موضوع له بناءً على ما بيّناه من أنّ الوضع هو أن يوجد الواضع في اللفظ ما هو سبب ذاتاً للدلالة، وهو الاقتران، وسببيّة الاقتران للدلالة تكوينيّة، ولا تفكيك فيها بين مورد يوجد فيه هدف الواضع ومورد لا يوجد فيه هدفه، فالواضع حينما قرن اللفظ بالمعنى تمّت الدلالة مطلقاً شاء أو أبى، ولا يمكنه أن يفكّك بين ما يُسمع من إنسان فيكون دالاًّ وما يسمع من جدار فلا يكون دالاًّ(۲).

(۱) راجع المحاضرات للشيخ الفيّاض حفظه الله، ج ۱، ص ٤۹ و ۱٠٤ ـ ۱٠٥.

وقد أتى في الموضع الثاني ـ أعني: ص ۱٠٤ ـ ۱٠٥ ـ بهذا البيان لإثبات عدم إطلاق الوضع للّفظ الصادر من لافظ غير ذي شعور حتّى على مسلك الاعتبار، أمّا على مسلك التعهّد فهو ليس بحاجة إلى هذا البيان، أعني: بيان لزوم اللغويّة؛ وذلك لأنّ التعهّد من اللافظ غير ذي شعور لا معنى له.

(۲) هذا بناءً على المسلك المختار، وهو مسلك القرن الأكيد. والواقع: أنّنا حتّى لو

الثالث: قد اشتهر: أنّ الدلالة على أساس الوضع مشروطة بالعلم بالوضع، وقد اتّضح بما ذكرناه معنى اشتراطها بالعلم. وسرّ ذلك، فإنّك عرفت: أنّ روح الوضع هو اقتران اللفظ بالمعنى في الذهن، إذن ففي الحقيقة لم يتمّ الوضع بعدُ في حقّ الجاهلين بالوضع؛ لعدم تحقّق الاقتران المخصوص بين اللفظ والمعنى في أذهانهم، وتتمّ الدلالة عندهم غالباً بأن يعلموا بالوضع بمعنى: أنّهم إذا علموا بإنشاء اعتبار أو تنزيل مثلاً، أو قرن سابق في ذهن الآخرين بين اللفظ والمعنى، فقد تحقّق الاقتران في أذهانهم أيضاً، وعلموا بالوضع، فتتمّ الدلالة عندهم. وقد تتّفق تماميّة الدلالة من دون علم بالوضع بهذا المعنى، وذلك كما إذا تمّ الاقتران في الذهن من دون اطّلاع من اُريد تعليمه على الوضع، وذلك من قبيل الأطفال الذين تتمّ الدلالة في أذهانهم بمثل قرن كلمة الحليب بالحليب عندهم.

تكلّمنا على مسلك الاعتبار مثلاً، فبرهان اللغويّة الذي ذكره السيّد الخوئيّ(رحمه الله) لنفي إطلاق الوضع للّفظ الصادر من غير ذي شعور غير صحيح؛ وذلك لأنّ الإطلاق ليست فيه مؤونة زائدة كي تُنفى باللغويّة.

contact the developer