معنى العارض الذاتيّ

معنى العارض الذاتيّ:

أمّا النقطة الاُولى: وهي أنّه هل من الصحيح ما ذكر في تعريف العارض الذاتيّ، أو لا؟

فقد ناقش في ذلك المحقّق العراقيّ(قدس سره) وغيره، إلاّ أنّنا نقتصر على ذكر كلام المحقّق العراقيّ(قدس سره)(۱) الذي هو ألطف ما اُفيد في المقام، ثُمّ نناقشه، فنقول:

قد أفاد المحقّق العراقيّ في المقام: أنّ العرض: إمّا ذاتيّ بمعنى الذاتيّ المذكور في كتاب الكلّيّات، أي: الجنس أو الفصل أو النوع(۲)، أو خارج لازم لا يحتاج إلى سبب كالحرارة بالنسبة إلى النار، أو خارج يحتاج إلى واسطة. وعلى الثالث: فإمّا أن تكون تلك الواسطة حيثيّة تعليليّة، أي: ليست هي المعروضة للعرض، وإنّما هي علّة لعروض العرض(۳) على المعروض، أو حيثيّة تقييديّة، أي: أنّها هي المعروضة حقيقة للعرض. فالأقسام الثلاثة الاُولى ينبغي الاعتراف بذاتيّتها؛ إذ هي تعرض على الموضوع حقيقة، أمّا الأوّل فهو ثابت للشيء بأعلى مراتب الثبوت، فإنّه من ذاتيّاته، وأمّا الثاني فهو ثابت للشيء لازم له، ولا واسطة بينه وبين المعروض، وأمّا الثالث فأيضاً هو عارض حقيقة على الشيء؛ لأنّ الواسطة إنّما هي واسطة تعليليّة، ولا يفرّق في ذلك بين ما ذكروه من أقسام الواسطة من كونها مبايناً أو أخصّ أو مساوياً داخليّاً أو خارجيّاً أو أعمّ داخليّاً أو خارجيّاً،

 

(۱) راجع المقالات، ج ۱، ص ٥ ـ ۷ بحسب طبعة المطبعة العلميّة في النجف الأشرف. أمّا بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم فراجع: ج ۱، ص ۳۹ ـ ٤۷، ونهاية الأفكار، ج ۱، ص ۱۳ ـ ۱۷.

(۲) إن أخذنا بحاقّ المصطلح الوارد في كتاب الكلّيّات، فالمقصود هنا أوسع من ذلك؛ حيث يشمل ذاتيّات غير الجنس والفصل والنوع، كما مثّل له المحقّق العراقيّ(رحمه الله)بالأبيضيّة والموجوديّة المنتزعتين من البياض والوجود.

والخلاصة: أنّ المقياس هو كون العرض منتزعاً من مقام ذات الشيء، سواء كان ذلك الشيء جنساً أو فصلا أو نوعاً، أو لم يكن كذلك.

(۳) كالمجاورة للنار الموجبة لعروض الحرارة على الماء. راجع نهاية الأفكار، ج ۱، ص ۱۳، والمقالات، ج ۱، ص ٤٠ بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ.

المحقّق العراقيّ(قدس سره)(۱) الذي هو ألطف ما اُفيد في المقام، ثُمّ نناقشه، فنقول:

قد أفاد المحقّق العراقيّ في المقام: أنّ العرض: إمّا ذاتيّ بمعنى الذاتيّ المذكور في كتاب الكلّيّات، أي: الجنس أو الفصل أو النوع(۲)، أو خارج لازم لا يحتاج إلى سبب كالحرارة بالنسبة إلى النار، أو خارج يحتاج إلى واسطة. وعلى الثالث: فإمّا أن تكون تلك الواسطة حيثيّة تعليليّة، أي: ليست هي المعروضة للعرض، وإنّما هي علّة لعروض العرض(۳) على المعروض، أو حيثيّة تقييديّة، أي: أنّها هي المعروضة حقيقة للعرض. فالأقسام الثلاثة الاُولى ينبغي الاعتراف بذاتيّتها؛ إذ هي تعرض على الموضوع حقيقة، أمّا الأوّل فهو ثابت للشيء بأعلى مراتب الثبوت، فإنّه من ذاتيّاته، وأمّا الثاني فهو ثابت للشيء لازم له، ولا واسطة بينه وبين المعروض، وأمّا الثالث فأيضاً هو عارض حقيقة على الشيء؛ لأنّ الواسطة إنّما هي واسطة تعليليّة، ولا يفرّق في ذلك بين ما ذكروه من أقسام الواسطة من كونها مبايناً أو أخصّ أو مساوياً داخليّاً أو خارجيّاً أو أعمّ داخليّاً أو خارجيّاً،  

(۱) راجع المقالات، ج ۱، ص ٥ ـ ۷ بحسب طبعة المطبعة العلميّة في النجف الأشرف. أمّا بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم فراجع: ج ۱، ص ۳۹ ـ ٤۷، ونهاية الأفكار، ج ۱، ص ۱۳ ـ ۱۷.

(۲) إن أخذنا بحاقّ المصطلح الوارد في كتاب الكلّيّات، فالمقصود هنا أوسع من ذلك؛ حيث يشمل ذاتيّات غير الجنس والفصل والنوع، كما مثّل له المحقّق العراقيّ(رحمه الله)بالأبيضيّة والموجوديّة المنتزعتين من البياض والوجود.

والخلاصة: أنّ المقياس هو كون العرض منتزعاً من مقام ذات الشيء، سواء كان ذلك الشيء جنساً أو فصلا أو نوعاً، أو لم يكن كذلك.

(۳) كالمجاورة للنار الموجبة لعروض الحرارة على الماء. راجع نهاية الأفكار، ج ۱، ص ۱۳، والمقالات، ج ۱، ص ٤٠ بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ.

هو الاتّحاد في الوجود، وهذا ثابت فيما عدا الأخير، وبلحاظ العروض تكون الأقسام الثلاثة الأخيرة عوارض غريبة(۱)؛ لأنّها في الحقيقة عرضت على الواسطة التي هي حيثيّة تقييديّة، كما أنّ الأقسام الثلاثة الاُولى كانت عوارض ذاتيّة، وأمّا الرابع وهو عروض العارض على الجنس بواسطة النوع فهذا عروض ضمنيّ للعرض على الشيء؛ لأنّ الجنس موجود في ضمن النوع فما يعرض على النوع يكون عارضاً ضمناً على الجنس، فإن قلنا بكفاية العروض الضمنيّ في الذاتيّة كان هذا عارضاً ذاتيّاً، وإن قلنا باشتراط الاستقلاليّة في العروض كان هذا عارضاً غريباً.

ثُمّ استظهر(قدس سره) من كلمات الفلاسفة أنّ الملحوظ هو عالم العروض لا عالم الحمل، وأنّ العروض يجب أن يكون استقلاليّاً لا ضمنيّاً، إذن فالعرض الذاتيّ هو الأقسام الثلاثة الاُولى والباقي كلّه غريب حتّى القسم الرابع وهو ما يعرض على الجنس بواسطة النوع، وإلاّ للزم أن يبحث في علم الحيوان عن عوارض الإنسان، وفي علم الطبيعي الذي موضوعه الجسم عن الطبّ. وقد نقل المحقّق العراقيّ عن المحقّق الخواجة نصير الدين الطوسيّ(قدس سره) في شرح الإشارات أنّه إذا كان عندنا موضوعان: أحدهما أخصّ والآخر أعمّ، فالبحث عن  

(۱) وهذا الكلام لا ينطبق على القسم الأوّل من هذه الأقسام الثلاثة الأخيرة، وهو عروض العرض على النوع بواسطة الجنس كعروض الألم على الإنسان بواسطة الروح الحيوانيّة؛ فإنّ الألم يعرض حقيقةً على الإنسان.

والواقع: أنّ الحقّ مع المحقّق العراقيّ(رحمه الله) الذي قلنا: إنّه حذف هذا القسم، فهو غير مذكور لا في المقالات ولا في نهاية الأفكار؛ وذلك لأنّ الروح الحيوانيّة حيثيّة تعليليّة لعروض الألم على الإنسان، وبكلمة اُخرى: إنّ عروض العرض على النوع بواسطة الجنس لا يعقل أن يكون إلاّ لكون الجنس حيثيّة تعليليّة، فيدخل ذلك في قسم الحيثيّة التعليليّة، ولا يوجد لدينا هذا القسم في فرض كون الواسطة حيثيّة تقييديّة.

هو الاتّحاد في الوجود، وهذا ثابت فيما عدا الأخير، وبلحاظ العروض تكون الأقسام الثلاثة الأخيرة عوارض غريبة(۱)؛ لأنّها في الحقيقة عرضت على الواسطة التي هي حيثيّة تقييديّة، كما أنّ الأقسام الثلاثة الاُولى كانت عوارض ذاتيّة، وأمّا الرابع وهو عروض العارض على الجنس بواسطة النوع فهذا عروض ضمنيّ للعرض على الشيء؛ لأنّ الجنس موجود في ضمن النوع فما يعرض على النوع يكون عارضاً ضمناً على الجنس، فإن قلنا بكفاية العروض الضمنيّ في الذاتيّة كان هذا عارضاً ذاتيّاً، وإن قلنا باشتراط الاستقلاليّة في العروض كان هذا عارضاً غريباً.

ثُمّ استظهر(قدس سره) من كلمات الفلاسفة أنّ الملحوظ هو عالم العروض لا عالم الحمل، وأنّ العروض يجب أن يكون استقلاليّاً لا ضمنيّاً، إذن فالعرض الذاتيّ هو الأقسام الثلاثة الاُولى والباقي كلّه غريب حتّى القسم الرابع وهو ما يعرض على الجنس بواسطة النوع، وإلاّ للزم أن يبحث في علم الحيوان عن عوارض الإنسان، وفي علم الطبيعي الذي موضوعه الجسم عن الطبّ. وقد نقل المحقّق العراقيّ عن المحقّق الخواجة نصير الدين الطوسيّ(قدس سره) في شرح الإشارات أنّه إذا كان عندنا موضوعان: أحدهما أخصّ والآخر أعمّ، فالبحث عن  

(۱) وهذا الكلام لا ينطبق على القسم الأوّل من هذه الأقسام الثلاثة الأخيرة، وهو عروض العرض على النوع بواسطة الجنس كعروض الألم على الإنسان بواسطة الروح الحيوانيّة؛ فإنّ الألم يعرض حقيقةً على الإنسان.

والواقع: أنّ الحقّ مع المحقّق العراقيّ(رحمه الله) الذي قلنا: إنّه حذف هذا القسم، فهو غير مذكور لا في المقالات ولا في نهاية الأفكار؛ وذلك لأنّ الروح الحيوانيّة حيثيّة تعليليّة لعروض الألم على الإنسان، وبكلمة اُخرى: إنّ عروض العرض على النوع بواسطة الجنس لا يعقل أن يكون إلاّ لكون الجنس حيثيّة تعليليّة، فيدخل ذلك في قسم الحيثيّة التعليليّة، ولا يوجد لدينا هذا القسم في فرض كون الواسطة حيثيّة تقييديّة.

فإذا لاحظنا مرتبة الوجود الخارجيّ، فمتى ما صدق الحمل صدق العروض وبالعكس، فالأقسام الستّة(۱)، أعني: ما عدا القسم الأخير من الأقسام التي ذكرها المحقّق العراقيّ(قدس سره) يكون الحمل والعروض معاً فيها ذاتيّاً، فإدراك الكلّيّات إذا فرض عارضاً على النوع أو الفصل فهو محمول وعارض حقيقة على الجنس في مرتبة الوجود الخارجيّ، وأمّا إذا لاحظنا مرتبة التحليل فالجنس شيء والفصل شيء آخر مباين له، وفي تلك المرتبة عوارض الفصل وكذا النوع لا تحمل على الجنس وكذا العكس، فكما لم يصدق العروض لم يصدق الحمل، إذن فلو اُريد التفصيل وجب أن يفصل بين مرتبة الوجود ومرتبة التحليل، لا بين الحمل والعروض.

الإشكال الثالث الذي به تتّضح حقيقة الحال هو: أنّ مراد الحكماء من العرض الذاتيّ ليس هو الذاتيّ عروضاً أو حملاً بلحاظ مرتبة التحليل فقط، وإلاّ لكان عارض النوع غريباً عن الجنس، فإنّ ما يعرض على الكلّ بما هو كلّ ليس بحسب الدقّة عارضاً على جزئه التحليليّ بوجه من الوجوه، في حين نراهم يجعلون عارض النوع ذاتيّاً للجنس. وليس مرادهم أيضاً من العرض الذاتيّ الذاتيّة عروضاً أو حملاً بلحاظ مرتبة الوجود، فإنّهم اتّفقوا على أنّ العرض الذي يعرض على الشيء بواسطة أمر أعمّ خارجيّ أو بواسطة أمر أخصّ خارجيّ ليس ذاتيّاً، مع أنّه في مرتبة الوجود عارض ومحمول على ذلك الشيء. بل المراد من الذاتيّة هي الذاتيّة بلحاظ منشَأيّة موضوع المسألة لمحمولها. وتوضيح ذلك: أنّ موضوع المسألة يتصوّر له نسبتان إلى محمولها:    

(۱) بل الخمسة؛ لما عرفت من أنّ الخامس ـ حسب ترتيب اُستاذنا(قدس سره) ـ لا وجود له، ولم يذكره المحقّق العراقىّ.

الاُولى: نسبة المحلّيّة والمعروضيّة على حدّ محلّيّة الجسم للبياض والحركة، وهذه النسبة هي التي لاحظها المحقّق العراقيّ(قدس سره)، والذاتيّة بهذا اللحاظ معناها ما قاله المحقّق العراقيّ(قدس سره) وهو العروض حقيقةً ولو بواسطة تعليليّة. والثانية: نسبة المنشَأيّة، أي: كون الموضوع منشأً وعلّةً في إيجاد العرض، والنسبة المنشَأيّة بالقياس إلى النسبة المحلّيّة بينهما عموم من وجه، فقد تجتمعان كما في الحرارة بالنسبة إلى النار، فالنار محلّ لها ومنشأ لها في وقت واحد، وقد تفترقان كما في الحرارة التي عرضت على الماء بواسطة مجاورته للنار، فلو قسنا هذه الحرارة إلى الماء كانت نسبتها إليه نسبة المحلّيّة دون نسبة المنشَأيّة، ولو قسناها إلى مجاورة النار كانت نسبتها إليها نسبة المنشَأيّة دون المحلّيّة. ومقصود الحكماء ليست هي الذاتيّة المحلّيّة، لا بلحاظ مرتبة التحليل، وإلاّ لزم غرابة عرض النوع على الجنس، ولا بلحاظ الوجود، وإلاّ لزم كون الأقسام السبعة(۱)التي تُذكر كلّها ذاتيّة ما عدا قسم واحد وهو ما كان بواسطة أمر مباين، وإنّما مقصودهم هي الذاتيّة المنشَأيّة، أي: أن يكون الموضوع منشأً للعرض ولو بالواسطة. وبهذا التفسير للذاتيّة يتّضح السرّ فيما اعترفوا به ـ كما صرّح المحقّق الطوسيّ في شرح الإشارات ـ من أنّ ما يعرض بلا واسطة أو بواسطة أمر مساو داخليّ أو خارجيّ فهو ذاتيّ، وما يعرض بواسطة أمر أعمّ أو أخصّ فهو غير ذاتيّ. وشرحه: أنّ هذا الكلام مشتمل على دعاوي أربع: الدعوى الاُولى: أنّ ما يعرض على الشيء بلا واسطة فهو عرض ذاتيّ، وهذا واضح؛ إذ مع فرض عدم وجود واسطة يكون الموضوع وحده منشأً للمحمول  

(۱) بل الستّة كما مضى.

الاُولى: نسبة المحلّيّة والمعروضيّة على حدّ محلّيّة الجسم للبياض والحركة، وهذه النسبة هي التي لاحظها المحقّق العراقيّ(قدس سره)، والذاتيّة بهذا اللحاظ معناها ما قاله المحقّق العراقيّ(قدس سره) وهو العروض حقيقةً ولو بواسطة تعليليّة. والثانية: نسبة المنشَأيّة، أي: كون الموضوع منشأً وعلّةً في إيجاد العرض، والنسبة المنشَأيّة بالقياس إلى النسبة المحلّيّة بينهما عموم من وجه، فقد تجتمعان كما في الحرارة بالنسبة إلى النار، فالنار محلّ لها ومنشأ لها في وقت واحد، وقد تفترقان كما في الحرارة التي عرضت على الماء بواسطة مجاورته للنار، فلو قسنا هذه الحرارة إلى الماء كانت نسبتها إليه نسبة المحلّيّة دون نسبة المنشَأيّة، ولو قسناها إلى مجاورة النار كانت نسبتها إليها نسبة المنشَأيّة دون المحلّيّة. ومقصود الحكماء ليست هي الذاتيّة المحلّيّة، لا بلحاظ مرتبة التحليل، وإلاّ لزم غرابة عرض النوع على الجنس، ولا بلحاظ الوجود، وإلاّ لزم كون الأقسام السبعة(۱)التي تُذكر كلّها ذاتيّة ما عدا قسم واحد وهو ما كان بواسطة أمر مباين، وإنّما مقصودهم هي الذاتيّة المنشَأيّة، أي: أن يكون الموضوع منشأً للعرض ولو بالواسطة. وبهذا التفسير للذاتيّة يتّضح السرّ فيما اعترفوا به ـ كما صرّح المحقّق الطوسيّ في شرح الإشارات ـ من أنّ ما يعرض بلا واسطة أو بواسطة أمر مساو داخليّ أو خارجيّ فهو ذاتيّ، وما يعرض بواسطة أمر أعمّ أو أخصّ فهو غير ذاتيّ. وشرحه: أنّ هذا الكلام مشتمل على دعاوي أربع: الدعوى الاُولى: أنّ ما يعرض على الشيء بلا واسطة فهو عرض ذاتيّ، وهذا واضح؛ إذ مع فرض عدم وجود واسطة يكون الموضوع وحده منشأً للمحمول  

(۱) بل الستّة كما مضى.

الاُولى: نسبة المحلّيّة والمعروضيّة على حدّ محلّيّة الجسم للبياض والحركة، وهذه النسبة هي التي لاحظها المحقّق العراقيّ(قدس سره)، والذاتيّة بهذا اللحاظ معناها ما قاله المحقّق العراقيّ(قدس سره) وهو العروض حقيقةً ولو بواسطة تعليليّة. والثانية: نسبة المنشَأيّة، أي: كون الموضوع منشأً وعلّةً في إيجاد العرض، والنسبة المنشَأيّة بالقياس إلى النسبة المحلّيّة بينهما عموم من وجه، فقد تجتمعان كما في الحرارة بالنسبة إلى النار، فالنار محلّ لها ومنشأ لها في وقت واحد، وقد تفترقان كما في الحرارة التي عرضت على الماء بواسطة مجاورته للنار، فلو قسنا هذه الحرارة إلى الماء كانت نسبتها إليه نسبة المحلّيّة دون نسبة المنشَأيّة، ولو قسناها إلى مجاورة النار كانت نسبتها إليها نسبة المنشَأيّة دون المحلّيّة. ومقصود الحكماء ليست هي الذاتيّة المحلّيّة، لا بلحاظ مرتبة التحليل، وإلاّ لزم غرابة عرض النوع على الجنس، ولا بلحاظ الوجود، وإلاّ لزم كون الأقسام السبعة(۱)التي تُذكر كلّها ذاتيّة ما عدا قسم واحد وهو ما كان بواسطة أمر مباين، وإنّما مقصودهم هي الذاتيّة المنشَأيّة، أي: أن يكون الموضوع منشأً للعرض ولو بالواسطة. وبهذا التفسير للذاتيّة يتّضح السرّ فيما اعترفوا به ـ كما صرّح المحقّق الطوسيّ في شرح الإشارات ـ من أنّ ما يعرض بلا واسطة أو بواسطة أمر مساو داخليّ أو خارجيّ فهو ذاتيّ، وما يعرض بواسطة أمر أعمّ أو أخصّ فهو غير ذاتيّ. وشرحه: أنّ هذا الكلام مشتمل على دعاوي أربع: الدعوى الاُولى: أنّ ما يعرض على الشيء بلا واسطة فهو عرض ذاتيّ، وهذا واضح؛ إذ مع فرض عدم وجود واسطة يكون الموضوع وحده منشأً للمحمول  

(۱) بل الستّة كما مضى.

الذاتيّ للشيء عرض ذاتيّ لذلك الشيء؛ لأنّ معلول المعلول معلول. وبهذا يعرف أيضاً أنّ عرض النوع ذاتيّ للجنس، فإنّه وإن كان النوع أخصّ من الجنس ولكن هذه الأخصّيّة إنّما هي بسبب الفصل الذي لا يسبِّب دخله في ثبوت العرض كون العرض غريباً على الجنس، وبهذا اتّضح السرّ فيما مضى عن شرح الإشارات من أنّ الخاصّ لو كانت نسبته إلى العامّ نسبة النوع إلى الجنس، فالبحث عن الخاصّ داخل في البحث عن العامّ وجزء منه، ولو كانت نسبته إليه نسبة المقيّد إلى المطلق، فالبحث عن الخاصّ ليس جزءاً من البحث عن العامّ.

وقد ظهر أيضاً بما ذكرناه الخلل فيما ذكره جملة من المحقّقين كالمحقّق الإصفهانيّ(قدس سره)(۱)، حيث قالوا في مقام بيان الضابط لذاتيّة العرض وعدم ذاتيّته حينما يكون عارضاً على الشيء بواسطة أخصّ: إنّه متى ما كانت الواسطة مع العرض مجعولين بجعل واحد كان العرض ذاتيّاً، ومتى ما كان كلّ منهما مجعولاً بجعل مستقلّ كان العرض غريباً، فمثلاً العوارض التي تعرض على الإنسان بواسطة كونه عراقيّاً من قبيل أمزجة خاصّة أو عادات خاصّة تكون عوارض غريبة للإنسان؛ لأنّها مجعولة بجعل مستقلّ غير جعل العراقيّة، ولكن الجسميّة العارضة على الوجود بواسطة كونه جوهراً عارض ذاتيّ للوجود؛ لأنّ الجسميّة مع الجوهريّة مجعولتان بجعل واحد. أقول: قد تمكن دعوى: أنّ اتّخاذ الواسطة مع العرض في الجعل يكون نكتة في كون العرض أوّليّاً، حيث إنّ الواسطة ليس لها جعل زائد على العرض، فكأنّما عرض العرض رأساً على الشيء بلا واسطة، ولكنّ العارض الذاتيّ أعمّ من  

(۱) راجع نهاية الدراية، ج ۱، ص ۲۲ بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.

العارض الأوّلي، ولا يشترط فيه عدم الواسطة، فإنّ الذاتيّة تكون بمعنى الذاتيّة المنشَأيّة بأن يكون المعروض منشأً لوجود العارض ولو بألف واسطة.

وعلى أيّ حال، فقد اتّضح بما ذكرناه: أنّ حمل الذاتيّة في كلمات الحكماء على الذاتيّة المنشَأيّة هو الذي يفسّر لنا مجموع هذه الاُمور الموجودة في كلماتهم.

تنبيهات:

بقي التنبيه على عدّة اُمور: الأوّل: أنّ الاُصوليّين قد ذكروا في المقام العرض الذي يعرض بواسطة أمر مباين، وجعلوه عرضاً غريباً(۱)، وهذا القسم هو من إضافات علماء الاُصول، وليس موجوداً في التقسيم الأصليّ. وتوضيح النكتة في ذلك: أنّ علماء الاُصول قصدوا من الأخصّيّة والأعمّيّة والتساوي الأخصّيّة في الصدق والانطباق، والأعمّيّة أو التساوي فيه، فمعنى كون شيء أخصّ من شيء أنّه يصدق على بعض أفراده لا تمامها، ومعنى كونه أعمّ منه  

(۱) لعلّ توضيح المقصود مايلي:

قصدوا بالعروض العروض المحلّيّ، فمتى ما فرضت واسطة خارجيّة بين العرض ومحلّه، فهذا يعني أنّ العرض عرض على تلك الواسطة، و تلك الواسطة عرضت على المحلّ، وكانت النسبة التصادقيّة بين تلك الواسطة والمحلّ هي التباين، وكان العرض عرضاً غريباً على المحلّ، ومثاله: تعمّق النوم الذي يكون عارضاً على النوم ويكون النوم عارضاً على الإنسان الذي هو المحلّ، ويكون النوم مبايناً في النسبة التصادقيّة مع الإنسان، فيكون عمق النوم عرضاً غريباً للإنسان، في حين أنّنا لو أخذنا النسبة المورديّة بين النوم والإنسان فالنسبة بينهما هي أعمّيّه النوم من الإنسان؛ لأنّ مورده الإنسان وكثير من الحيوانات الاُخرى، ولا نجد مثالاً للتباين.

أنّه يصدق على تمام أفراده وزيادة، ومعنى التساوي هو التساوي في الصدق والانطباق، أي: كلّ منهما يصدق على ما يصدق عليه الآخر دون غيره، فاضطرّوا إلى جعل عنوان في مقابل هذه العناوين وهو المباين، في حين ليس مراد الحكماء من الأعمّيّة والأخصّيّة والتساوي ذلك، بل مرادهم منها هو الأعمّيّة والأخصّيّة والتساوي في المورد، سواء كان منطبقاً عليه أو لا. وهذا هو الذي ينبغي أن يراد؛ لأنّ الميزان في ذاتيّة العرض مع الواسطة وعدم ذاتيّته هو كون الواسطة مساوية بالمعنى الثاني وعدمه، فلو أنّ عارضاً عرض على جوهر بواسطة عرض آخر ذاتيّ له، فهذه الواسطة وإن كانت مباينة للجوهر بالمعنى الأوّل ولكن مع ذلك يعتبر عرضها عرضاً ذاتيّاً للجوهر قد عرض عليه بواسطة أمر مساو، والسرّ في ذلك ما مضى من أنّ معلول المعلول معلولٌ، وأنّ ما يعرض ذاتاً على شيء عارض على شيء آخر بالذات عارض ذاتيّ له، ولذا صرّح المحقّق الطوسيّ في شرح الإشارات بأنّ العرض الذي يعرض على الشيء بواسطة أمر مساو من قبيل ما يعرض عليه بواسطة فصله، أو بواسطة عرض آخر مساو له يكون ذاتيّاً له. وعلى هذا الأساس فالمباين يرجع إلى أحد هذه الأقسام، أي: إلى الأعمّ أو الأخصّ أو المساوي.

الثاني: قد عرفت أنّ الملحوظ للحكماء هو الذاتيّة المنشَأيّة، لا الذاتيّة المحلّيّة، إلاّ أنّه قد يقال: إنّ المحل ـ وهو حامل العرض ـ أيضاً يكون منشأً وعلّة للعرض؛ وذلك لأنّه مادّة له، فهو أحد العلل الأربع عند الحكماء، حيث قالوا: إنّ الشيء بحاجة إلى أربع علل: العلّة الفاعليّة، والعلّة المادّيّة، والعلّة الصوريّة، والعلّة الغائيّة. إذن فالمحلّ يعدّ علّة للعرض؛ لأنّه علّة مادّيّة له. ولكن مع ذلك نقول: إنّ العرض لا يعتبر ذاتيّاً بالذاتيّة المنشَأيّة لمحلّه؛ والنكتة

في ذلك: أنّ المحلّ ليس علّة تامّة للعرض حتّى يستتبعه، فالخشبيّة مثلاً لا تكفي لتحقّق السريريّة حتّى تكون السريريّة ذاتيّة لها، فالعرض الذاتيّ للشيء هو الذي يكون ذلك الشيء مستتبعاً له وكافياً في تحقّقه، والمحلّ لا يلزم أن يكون كذلك بالنسبة إلى العرض. نعم، قد يتّفق أنّ المادّة سنخ مادّة فرضها يساوق فرض الفاعل والغاية كمادّة النبات التي تعرض لها أعراض من النموّ وطبع التغذية والحياة والموت، فمثل هذه الأعراض تعتبر ذاتيّة لمحلّها وإن كان فاعلها فوق الطبيعة، وليست نفس المادّة فاعلة لها؛ وذلك لأنّ الفاعل لا قصور فيه كالغاية، وإنّما ينتظر استعداد المادّة، فالمادّة تستتبع العرض لتماميّة باقي العلل، ولا نعني بالذاتيّة إلاّ أنّ فرض الشيء مساوق لاستتباعه للعرض، وعدمه مساوق لعدمه.

الثالث: أنّ العلّة الغائيّة حينما تكون باقي العلل مفروغاً عن ثبوتها تستتبع لا محالة ذا الغاية، فالغاية وإن كانت من ناحية معلولة لذي الغاية لكنّها من ناحية اُخرى تعدّ علّة ومنشأً لذي الغاية، وعلى هذا الأساس يصحّ أن يكون موضوع العلم عبارة عن الغاية، ويكون العلم باحثاً عن أسبابها، وذلك من قبيل علم الطبّ حيث يجعل موضوعه الصحّة، وهو يبحث عن حالات الإنسان والحركات والقوى الموجودة في جسم الإنسان إلى غير ذلك، حيث إنّه تفرض الصحّة غاية لكلّ تلك الاُمور، وقد ذهب الفلاسفة إلى أنّه كلّما يوجد شيء فهو بحاجة إلى علّة غائيّة، لا أنّ العلّة الغائيّة مرتبطة بفرض الاختيار في العمل، فالعلّة الغائيّة للأفعال والقوى والحركات في الجسم هي الصحّة، فتقع الصحّة موضوعاً لعلم الطبّ، ويتكلّم فيه عن أسبابها ومقدّماتها وموانعها أيضاً. هذا تمام الكلام في النقطة الاُولى، وبحسب الحقيقة قد ظهرت ممّا ذكرناه نكات حلّ الإشكال في النقطة الثانية والثالثة أيضاً.
contact the developer