التعريف المختار لعلم الاُصول

التعريف المختار لعلم الاُصول:

وأمّا التعريف المختار لعلم الاُصول فهو أن يقال: إنّ علم الاُصول هو العلم بالقواعد المشتركة في القياس الاستدلاليّ الفقهيّ. وتوضيح ذلك: أنّ نسبة علم الاُصول إلى علم الفقه كنسبة علم المنطق إلى سائر العلوم، فعلم المنطق يتناول

صور الاستدلال المشتركة بين العلوم، وعلم الاُصول يتناول صور الاستدلال المشتركة في الفقه، وبالتحليل ترجع القيود التي نأخذها في تعريف علم الاُصول إلى قيود ثلاثة:

القيد الأوّل: أنّ القواعد الاُصوليّة لا تؤخذ فيها مادّة معيّنة من موادّ الفقه، أعني: فعلاً معيناً من أفعال المكلّفين كالصلاة والصوم والزكاة وغير ذلك(۱)، أي: أنّها تكون لا بشرط تجاه هذه الموادّ، كما أنّ القواعد المنطقيّة لا تُؤخذ فيها مادّة معيّنة من موادّ العلوم، فهي لا تتكلّم عن الموادّ الفيزيائيّة، ولا الأعداد الرياضيّة، ولا الأدوية الطبّيّة ولا غير ذلك، وإنّما تتناول صورة الاستدلال التي تسري في كلّ هذه العلوم. وبهذا القيد تخرج القواعد اللغويّة البحتة من قبيل دلالة كلمة « صعيد » على التراب أو مطلق وجه الأرض، فإنّها إنّما تفيد في استنباط حكم فعل مضاف إلى التراب أو وجه الأرض، ولا تكون لا بشرط من حيث خصوصيّة الأفعال، وتخرج مسائل علم الحديث، أعني: آحاد الروايات، فإنّ كلّ رواية منها تبيّن حكماً مختصّاً بفعل خاصّ من الأفعال، وتخرج أيضاً القواعد الاستدلاليّة الفقهيّة التي تكون من قبيل قاعدة: إنّ دليل صحّة البيع يدلّ على الضمان مثلاً، فإنّها مختصّة بمادّة معيّنة من الموادّ كمادّة البيع، كما أنّ القواعد الفقهيّة(۲) التي هي من

 

(۱) ما أفاده اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في بحث الاستصحاب من الدورة السابقة، أي: الدورة الاُولى أدقّ تعبيراً من التعبير الوارد هنا، وهو: أنّ موادّ الفقه التي لا تؤخذ في القواعد الاُصوليّة هي كلّ عنوان أوّليّ أو ثانويّ متعلق لحكم واقعيّ كالصعيد مثلا الذي هو عنوان أوّليّ، وكالضرر الذي هو عنوان ثانوي.

راجع كتابنا في تقرير أبحاثه(رحمه الله) الجزء الخامس من القسم الثاني، ص ۲٥ بحسب الطبعة الاُولى وفق مطبعة وتجليد إسماعيليان.

(۲) وهي خارجة بالقيد الثاني أيضاً.

التعريف المختار لعلم الاُصول: وأمّا التعريف المختار لعلم الاُصول فهو أن يقال: إنّ علم الاُصول هو العلم بالقواعد المشتركة في القياس الاستدلاليّ الفقهيّ. وتوضيح ذلك: أنّ نسبة علم الاُصول إلى علم الفقه كنسبة علم المنطق إلى سائر العلوم، فعلم المنطق يتناول  
۳٤

صور الاستدلال المشتركة بين العلوم، وعلم الاُصول يتناول صور الاستدلال المشتركة في الفقه، وبالتحليل ترجع القيود التي نأخذها في تعريف علم الاُصول إلى قيود ثلاثة:

القيد الأوّل: أنّ القواعد الاُصوليّة لا تؤخذ فيها مادّة معيّنة من موادّ الفقه، أعني: فعلاً معيناً من أفعال المكلّفين كالصلاة والصوم والزكاة وغير ذلك(۱)، أي: أنّها تكون لا بشرط تجاه هذه الموادّ، كما أنّ القواعد المنطقيّة لا تُؤخذ فيها مادّة معيّنة من موادّ العلوم، فهي لا تتكلّم عن الموادّ الفيزيائيّة، ولا الأعداد الرياضيّة، ولا الأدوية الطبّيّة ولا غير ذلك، وإنّما تتناول صورة الاستدلال التي تسري في كلّ هذه العلوم. وبهذا القيد تخرج القواعد اللغويّة البحتة من قبيل دلالة كلمة « صعيد » على التراب أو مطلق وجه الأرض، فإنّها إنّما تفيد في استنباط حكم فعل مضاف إلى التراب أو وجه الأرض، ولا تكون لا بشرط من حيث خصوصيّة الأفعال، وتخرج مسائل علم الحديث، أعني: آحاد الروايات، فإنّ كلّ رواية منها تبيّن حكماً مختصّاً بفعل خاصّ من الأفعال، وتخرج أيضاً القواعد الاستدلاليّة الفقهيّة التي تكون من قبيل قاعدة: إنّ دليل صحّة البيع يدلّ على الضمان مثلاً، فإنّها مختصّة بمادّة معيّنة من الموادّ كمادّة البيع، كما أنّ القواعد الفقهيّة(۲) التي هي من  

(۱) ما أفاده اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في بحث الاستصحاب من الدورة السابقة، أي: الدورة الاُولى أدقّ تعبيراً من التعبير الوارد هنا، وهو: أنّ موادّ الفقه التي لا تؤخذ في القواعد الاُصوليّة هي كلّ عنوان أوّليّ أو ثانويّ متعلق لحكم واقعيّ كالصعيد مثلا الذي هو عنوان أوّليّ، وكالضرر الذي هو عنوان ثانوي.

راجع كتابنا في تقرير أبحاثه(رحمه الله) الجزء الخامس من القسم الثاني، ص ۲٥ بحسب الطبعة الاُولى وفق مطبعة وتجليد إسماعيليان.

(۲) وهي خارجة بالقيد الثاني أيضاً.

مضاف إلى فعل يكون فيه الصحيح والأعمّ.

ومن امتيازات تعريفنا على التعاريف الماضية أنّه كانت تُؤخذ في التعاريف الماضية قيود لإخراج ما ليس من القواعد الاُصوليّة، ولا مبرّر لتلك القيود عدا أنّ الاُصوليّين عملا قد أخرجوا تلك القواعد عن علم الاُصول من دون أن تبرز نكتة ثبوتيّة لهذا العمل، فيقال مثلاً: إنّ القاعدة الاُصوليّة هي التي تكفي وحدها في مقام الاستنباط، أو هي التي تكون ناظرة إلى الحكم. وقيد الوحدة أو قيد النظر إنّما هو قيد انتزع من الواقع الخارجيّ لعلم الاُصول المدوّن في الكتب من دون أن توجد نكتة من أوّل الأمر في جعل علم الاُصول هي خصوص القواعد التي تكفي وحدها في الاستنباط، أو خصوص القواعد التي تنظر إلى الحكم، فهذه القيود هي تصحّح عمل الاُصوليّين من دون أن توجّهها، ولكن التعريف الذي ذكرناه يصحّح عمل الاُصوليّين ويوجّهه في نفس الوقت؛ لأنّ جميع القيود المأخوذة فيه مشتملة على مناسبة ثبوتيّة ومبرّر واقعيّ لأخذها بعين الاعتبار في علم الاُصول، بحيث لو اُعطي بيدنا تدوين علم الاُصول وتأسيسه من أصله لما أسّسنا ودوّنّا إلاّ بنفس هذا الترتيب المشتمل على هذه القيود. فبالنسبة للقيد الأوّل وهو كون القاعدة لا بشرط من حيث الموادّ ترى المناسبة واضحة في أخذه بعين الاعتبار، فإنّ علم الاُصول نشأ في أحضان علم الفقه، وتولّد بعد علم الفقه تأريخيّاً تلبية للحاجات الفنّيّة لعلم الفقه، حيث إنّ علم الفقه احتاج في كثير من الأحيان إلى قواعد واستدلالات، وتلك القواعد والاستدلالات بعضها كانت مقيّدة بمادّة معيّنة من قبيل قاعدة ما يضمن المقيّدة بالعقود مثلاً، ومن الواضح: أنّ مثل هذه القاعدة يناسب ذكرها في مبحث تلك المادّة، وبعضها كانت عامّة وغير مقيّدة بمادّة دون مادّة، فكان من المناسب

أفرادها بالبحث، فاُفردت تلك القواعد بالبحث، وسمّيت بعلم الاُصول.

القيد الثاني: أن تكون تلك القاعدة: إمّا غير مقيّدة بحكم معيّن من قبيلحجّيّة خبر الثقة المنسجمة مع تمام الأحكام الفقهيّة، أو تكون مقيّدة بحكمسار في أبواب كثيرة من أبواب الفقه من قبيل دلالة الأمر على الوجوب، والنهي على الحرمة، واقتضاء النهي للفساد ونحو ذلك، فإنّ هذه القواعد وإن اختصّت بحكم معيّن من قبيل الوجوب أو الحرمة أو الفساد، إلاّ أنّ هذه الأحكام ـ كما ترى ـ سيّالة في سائر أبواب الفقه. وبهذا يخرج عن علم الاُصول ما كان من قبيل قاعدة ( أنّ ما دلّ على مطهّريّة شيء فقد دلّ على طهارته )، فإنّ هذه القاعدةوإن لم تكن مقيّدة بفعل من الأفعال، إلاّ أنّها مقيّدة بحكم معيّن غير سيّال في أبواب الفقه وهو الطهارة فمن الواضح: أنّ مثل هذه القاعدة يناسب ذكرها في ذلك الباب الفقهيّ المعيّن، لا إفرادها وجعلها في ضمن القواعد الاُصوليّة المستقلّة عن علم الفقه. القيد الثالث: أن تكون تلك القاعدة الداخلة في القياس الاستدلاليّ للفقه داخلة في القياس الأخير للاستنباط، وجميع القواعد الاُصوليّة من هذا القبيل، فمبحث الملازمات والامتناعات يدخل في القياس المباشر لاستنباط الحكم نفياً أو إثباتاً، وكذلك مباحث الحجج والاُصول، أو مباحث صغريات الظهور، غاية الأمر أنّ بعض هذه المباحث يدخل في كبرى القياس المباشر للاستنباط من قبيل حجّيّة خبر الثقة، فيقال مثلاً: هذا الحكم ما أخبر به الثقة، وكلّما أخبر به الثقة فهو ثابت تعبّداً، فهذا الحكم ثابت تعبّداً، وبعضها يدخل في صغرى القياس المباشر للاستنباط من قبيل مباحث صغريات الظهور، فيقال مثلاً: هذا الأمر ظاهر في الوجوب، والظهور يثبت الحكم تعبّداً، إذن فالوجوب ثابت تعبّداً.
والمناسبة في أخذ هذا القيد في التعريف أيضاً واضحة، فإنّ قواعد العلم إذا كانت مستنبطة من أقيسة مركّبة من مقدّمات، وتلك المقدّمات أيضاً بالتحليل كانت ترجع إلى مقدّمات اُخرى فوقها... وهكذا، فهذه المقدّمات بجميع طبقاتها وإن كانت مقدّمات لذاك العلم، ولكن المقدّمات الفوقيّة مقتضى طبعها أن يعقل دخلها في دائرة أوسع من ذلك العلم، فالمناسب بحسب الذوق العلميّ أن تجعل علماً مستقلاًّ غير مرتبط بعلم المقدّمات المباشرة، فمثلاً علم الاُصول هو علم بمقدّمات دخيلة في القياس المباشر للاستنباط، ولكن حينما تحلّل تلك المقدّمات نرى أنّها ترجع أيضاً إلى مقدّمات اُخرى فوقها وهي المقدّمات المنطقيّة، فلولا القاعدة المنطقيّة القائلة: « إذا كان الأصغر داخلاً في الأوسط الداخل في الأكبر، كان ذلك الأصغر داخلاً في الأكبر » لما أمكن الاستنباط من المقدّمات الاُصوليّة؛ لعدم التأكّد من صحّة صورة القياس المركّب من مقدّمات اُصوليّة، وحينئذ ترى من المناسب أن يكون علم الاُصول منطقاً لعلم الفقه، وأن يكون علم المنطق منطقاً لدائرة أوسع وهي مطلق العلوم، فإنّه يشتمل على مقدّمات فوقيّة ودخيلة في علوم اُخرى، وليس من المناسب بحسب الذوق العلميّ إدخال المقدّمات بجميع طبقاتها في علم واحد. وقد اتّضح بما ذكرناه نكتة خروج علم الرجال من علم الاُصول أيضاً، فإنّ وثاقة زرارة ليست دخيلة في القياس المباشر للاستنباط، وإنّما هي من مقدّمات قياس سابق، حيث يقال أوّلاً: «هذا خبر زرارة، وزرارة ثقة، فهذا خبر ثقة»، وبعد ذلك يقال: «هذا ما أخبر به الثقة، وكلّما أخبر به الثقة فهو ثابت تعبّداً، فهذا ثابت تعبّداً»، فالقياس الأوّل بكلتا مقدّمتَيه خارج عن علم الاُصول، وأمّا القياس الثاني وهو القياس المباشر، فصغراه خارجة عن علم الاُصول بالقيد الأوّل؛ لتقيّده بمادّة

معيّنة ورد فيها ذلك الخبر، وكبراه داخلة في علم الاُصول(۱).

   

(۱) قد يقال ـ كما مضى في النقاش مع المحقّق العراقيّ(رحمه الله) ـ: إنّه لا ينبغي أن يصاغ التعريف بصياغة تؤدّي إلى كون الفرق بين القواعد الاُصوليّة والقواعد الاُخرى الدخيلة في الاستنباط فرقاً في الصياغة، لا فرقاً جوهريّاً، بحيث كان بالإمكان تغيير صياغة تلك القواعد الاُخرى إلى ما يدخلها في علم الاُصول، فكذلك نقول فيما نحن فيه: إنّ خروج مسائل علم الرجال عن الاُصول أصبح أمراً صياغيّاً بحتاً، فلو بدّلنا صياغة المسألة الرجاليّة التي تقول: « زرارة ثقة » إلى قولنا: « كلّ خبر زرارة خبر ثقة » أصبحت هذه المسألة داخلة في علم الاُصول؛ إذ بالإمكان أن نشير إلى خبر من أخبار زرارة دالّ على أحد الأحكام ونقول: «هذا الخبر خبر ثقة، وخبر الثقة يثبت الحكم تعبّداً، إذن فهذا الحكم ثابت تعبّداً»، فقد أصبح كون خبر زرارة خبر ثقة صغرى في القياس المباشر للاستنباط، وهذا سنخ ما مضى من اُستاذنا الشهيد(قدس سره) في مقام توضيح كون دلالة الأمر على الوجوب مسألة اُصوليّة من أنّنا نقول: «هذا الأمر ظاهر في الوجوب، والظهور يثبت الحكم تعبّداً، إذن فالوجوب ثابت تعبّداً».

فإن قلت: إنّ قولك: «هذا الخبر خبر ثقة» خاصّ بمادّة من الموادّ، وهي الفعل الذي يحكي عنه هذا الخبر، فهذا خارج بالقيد الأوّل، قلنا: كذلك قولك: «هذا الأمر ظاهر في الوجوب» خاصّ بالفعل الذي اُمر به في هذا الأمر، فإن جعلنا وقوع تطبيق من تطبيقات « الأمر ظاهر في الوجوب » صغرى للقياس المباشر كافياً في صدق عنوان: أنّ ظهور الأمر في الوجوب الذي لا يختصّ بمادّة من الموادّ وقع صغرى للقياس المباشر، فلنقل كذلك في المقام: إنّ وقوع تطبيق من تطبيقات « كلّ خبر زرارة خبر ثقة » صغرى للقياس المباشر كاف في صدق عنوان: أنّ كون خبر زرارة خبر ثقة الذي لا يختصّ بمادّة من الموادّ وقع صغرى للقياس المباشر.

ويمكن الجواب على هذا الإشكال بأن يقال: إنّ قولنا: «هذا الخبر خبر ثقة» وإن كان تطبيقاً لقولنا: «كلّ خبر زرارة خبر ثقة»، كما أنّ قولنا: «هذا الأمر ظاهر في الوجوب» تطبيق لقولنا: «الأمر ظاهر في الوجوب»، ولكن يوجد فرق جوهريّ بين التطبيقين، وهو:

أنّ التطبيق في الثاني يكون بمعنى العينيّة بين القضيّتين موضوعاً ومحمولاً، وأنّه لا فرق بينهما إلاّ في الكلّيّة والجزئيّة، وأمّا التطبيق في الأوّل فليس بهذا المعنى، وإنّما هو بمعنى الملازمة، أي: أنّ هذا الخبر مضاف إلى زرارة والوثاقة أيضاً مضافة إلى زرارة، فأصبح المضافان متلاقيين بلحاظ وحدة المضاف إليه، فصار هذا الخبر خبر ثقة، وبكلمة اُخرى: أنّ وثاقة زرارة حيثيّة تعليليّة لكون هذا الخبر خبر ثقة، ولكن ظهور الأمر في الوجوب هو عين ظهور هذا الأمر في الوجوب عينيّة الكلّيّ للمصداق، وليس مجرّد حيثيّة تعليليّة.

نعم، ذات كون هذا الخبر خبر ثقة قد أصبح دخيلاً في القياس المباشر، لكنّ هذا لا يشفع لا لكون ذلك داخلاً في علم الاُصول، ولا لكون قولنا: «كلّ خبر زرارة خبر ثقة» أو قولنا: «زرارة ثقة» داخلاً في علم الاُصول. أمّا الأوّل فلخروجه بالقيد الأوّل؛ لأنّه مختصّ بمادّة الفعل الذي يحكي ذاك الخبر عن حكمه، وأمّا الثاني فلأنّه ليس إلاّ حيثيّة تعليليّة لما دخل في القياس المباشر، لا عينيّة من باب العينيّة الثابتة بين الكلّيّ والمصداق.

ولكنّ الصحيح: أنّنا لو قسنا جملة « هذا الخبر خبر ثقة » إلى جملة « زرارة ثقة » صحّ القول بأنّ صدق الجملة الثانية مجرّد حيثيّة تعليليّة لصدق الجملة الاُولى من دون أن تكون منطبقة عليها انطباق الكلّيّ على المصداق، ولكنّنا لو قسناها إلى جملة « خبر زرارة خبر ثقة » فهذه الجملة عين الجملة الاُولى عينيّة الكلّيّ والمصداق وليست مجرّد حيثيّة تعليليّة لها، فصحيح: أنّنا حينما نجعل الوثاقة صفة لزرارة فارتباطها بهذا الخبر الذي هو خبر زرارة يكون بواسطة اتحاد طرف النسبتين، وهو زرارة، ويكون هذا حيثيّة تعليليّة لتوصيف هذا الخبر بالوثاقة من دون عينيّة بين الجملتين من سنخ عينيّة القضيّة الكلّيّة والقضيّة الجزئيّة التي تكون مصداقاً لها، ولكن حينما نصف خبر زرارة بكونه خبر ثقة، فانطباق هذا الوصف على هذا الخبر الجزئيّ إنّما يكون لأجل كون هذا الخبر مصداقاً لموصوف هذا الوصف، ومتّحداً معه اتّحاد المصداق مع الكلّيّ، وذلك تماماً من قبيل اتّحاد

هذا الأمر مع كلّيّ الأمر الذي وصف بأنّه ظاهر في الوجوب، وهذا معنى ما قلناه من أنّه رجع إذن الفرق بين القواعد الاُصوليّة ومسائل علم الرجال إلى الفرق في الصياغة، فلو صغنا المسألة بصياغة « زرارة ثقة » لم تدخل في علم الاُصول، ولو صغناها بصياغة « خبر زرارة خبر ثقة » دخلت في علم الاُصول.

وقد يقال: إنّ نكتة دخول مسألة من المسائل في علم من العلوم يجب أن تكون ثابتة في كلّ مسائل ذاك العلم، وإلاّ لجاز إدخال كلّ مسألة في ذاك العلم، ولكن لا يجب عدم انطباقها على مسائل علم آخر؛ وذلك لأنّه قد تكون مسائل العلم الآخر رغم اشتمالها على نفس النكتة اُفردت بعلم آخر على أساس جامع آخر مهمّ وواسع المصاديق غير موجود في باقي مسائل العلم الأوّل، فاقتضت المناسبة الذوقيّة جمع تلك المصاديق تحت ذاك الجامع الآخر، وأفرادها عن باقي مسائل العلم الأوّل، وإخراجها عن ذاك العلم، والمسائل الرجاليّة بالقياس إلى المسائل الاُصوليّة من هذا القبيل، فهي يجمعها البحث عن أحوال الرجال، وهو بحث واسع الانطباق على المسائل الكثيرة متميّز عن باقي مسائل علم الاُصول ممّا أوجب اقتضاء المناسبة أفرادها في تصنيف العلوم، فلا محيص عن أن يضاف إلى تعريف ذاك العلم قيد الخروج عن القاسم المشترك الموجود في العلم الآخر.

هذا، ولاُستاذنا الشهيد(قدس سره) بيان آخر لإخراج مسائل علم الرجال غير ما ذكره هنا، وهو ما تعرّض له في أوّل بحث خبر الواحد، ونحن قد حذفناه في تقريرنا المطبوع من هناك ونذكره هنا، وهو: أنّ علم الاُصول وإن كان علماً بالقواعد الفارغة عن الموادّ الفقهيّة، والتي هي موجّهة عامّة صوريّة بحت لعمليّة الاستنباط، ومسائل علم الرجال تحمل هذه الصفة، ولكنّها مع ذلك خارجة عن علم الاُصول، فإنّ ما يبحث عنه فيه إنّما هي الموجّهات الصوريّة التي ترجع إلى الشارع، أي: تكون شأناً من شؤون الشارع: إمّا بأن يكون حكماً مجعولاً للشارع كالحكم بحجّيّة خبر الواحد؛ إذ هو حكم مجعول له تأسيساً أو إمضاءً،

هذا الأمر مع كلّيّ الأمر الذي وصف بأنّه ظاهر في الوجوب، وهذا معنى ما قلناه من أنّه رجع إذن الفرق بين القواعد الاُصوليّة ومسائل علم الرجال إلى الفرق في الصياغة، فلو صغنا المسألة بصياغة « زرارة ثقة » لم تدخل في علم الاُصول، ولو صغناها بصياغة « خبر زرارة خبر ثقة » دخلت في علم الاُصول.

وقد يقال: إنّ نكتة دخول مسألة من المسائل في علم من العلوم يجب أن تكون ثابتة في كلّ مسائل ذاك العلم، وإلاّ لجاز إدخال كلّ مسألة في ذاك العلم، ولكن لا يجب عدم انطباقها على مسائل علم آخر؛ وذلك لأنّه قد تكون مسائل العلم الآخر رغم اشتمالها على نفس النكتة اُفردت بعلم آخر على أساس جامع آخر مهمّ وواسع المصاديق غير موجود في باقي مسائل العلم الأوّل، فاقتضت المناسبة الذوقيّة جمع تلك المصاديق تحت ذاك الجامع الآخر، وأفرادها عن باقي مسائل العلم الأوّل، وإخراجها عن ذاك العلم، والمسائل الرجاليّة بالقياس إلى المسائل الاُصوليّة من هذا القبيل، فهي يجمعها البحث عن أحوال الرجال، وهو بحث واسع الانطباق على المسائل الكثيرة متميّز عن باقي مسائل علم الاُصول ممّا أوجب اقتضاء المناسبة أفرادها في تصنيف العلوم، فلا محيص عن أن يضاف إلى تعريف ذاك العلم قيد الخروج عن القاسم المشترك الموجود في العلم الآخر.

هذا، ولاُستاذنا الشهيد(قدس سره) بيان آخر لإخراج مسائل علم الرجال غير ما ذكره هنا، وهو ما تعرّض له في أوّل بحث خبر الواحد، ونحن قد حذفناه في تقريرنا المطبوع من هناك ونذكره هنا، وهو: أنّ علم الاُصول وإن كان علماً بالقواعد الفارغة عن الموادّ الفقهيّة، والتي هي موجّهة عامّة صوريّة بحت لعمليّة الاستنباط، ومسائل علم الرجال تحمل هذه الصفة، ولكنّها مع ذلك خارجة عن علم الاُصول، فإنّ ما يبحث عنه فيه إنّما هي الموجّهات الصوريّة التي ترجع إلى الشارع، أي: تكون شأناً من شؤون الشارع: إمّا بأن يكون حكماً مجعولاً للشارع كالحكم بحجّيّة خبر الواحد؛ إذ هو حكم مجعول له تأسيساً أو إمضاءً،

وعلم الرجال وإن كان صدفة لا ينفع لعلم آخر غير الفقه، كما هو الحال في علم الاُصول، لكنّه خارج عن علم الاُصول؛ لما عرفت من أنّه يتكلّم عن مقدّمات قبليّة، أي: سابقة على المقدّمات المباشرة، والذوق العلميّ يقتضي فصل المقدّمات القبليّة من المقدّمات المباشرة؛ باعتبار أنّ من طبيعتها أن يتعقّل دخلها في دائرة أوسع وإن اتّفق صدفة عدم دخلها في ذلك. وقد اتّضح بما ذكرناه: أنّ القيد الأخير يخرج علم المنطق وعلم الرجال.    

فلا تصبح منطقاً لعلم الفقه، ولا تكون وسيعة بنحو تكون منطقاً لعلوم اُخرى أيضاً، بل اُخذت فيها الموادّ بدرجة سقطت عن قابليّة كونها منطقاً لسائر العلوم، ولكنّها منطق لعلم الفقه ودخيلة في الاستنباط من دون شرط وقوعها كبرى في طريق الاستنباط، والبحث عن وثاقة الراوي وإن كان أيضاً دخيلاً في الاستنباط، ولكن هنا قيد آخر ثابت بالارتكاز المميّز بين علم الاُصول ومثل علم الرجال، وهو: أنّ علم الاُصول يجب أن يكون مربوطاً بالحكم، بمعنى أن يكون هو حكماً ظاهريّاً كحجّيّة خبر الثقة، أو يكون من مقتضيات الحكم في إحدى المراحل الثلاث: الجعل، والإبراز، والتنجيز أو التعذير، فالأوّل كمباحث إمكان الترتّب، والملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها، ونحو ذلك من الاُمور التي يقتضيها الحكم بحسب عالم جعله، والثاني كمباحث دلالة الأمر على الوجوب، والنهي على الحرمة، والمشتقّ على ما انقضى عنه المبدأ أو المتلبّس، ونحو ذلك، والثالث كمباحث منجّزيّة الاحتمال أو معذّريّته عقلاً.

أقول بمناسبة ذكره(رحمه الله) للمشتقّ: وقد يفترض أنّ بحث المشتقّ أو نحوه كبحث الصحيح والأعمّ داخل في بحث الاُصول بخلاف البحث عن معنى مثل كلمة « الصعيد » هل هو التراب أو مطلق ما على وجه الأرض مثلا، والفرق: أنّ القيد في بحثي المشتقّ والصحيح والأعمّ لم يخرجهما عن سريانهما في الاستنباط في كثير من أبواب الفقه، ولكن القيد في مثل تفسير كلمة « الصعيد » أخرجه عن الدخل في الاستنباط في عامّة أبواب الفقه، وخصّه بمسألة التيمّم.

وأمّا حجّيّة القطع فهي أيضاً خارجة عن علم الاُصول؛ لأنّها غير دخيلة أصلاً في عمليّة الاستنباط في الفقه، ولا تشكّل أيّ مقدّمة في القياس الفقهيّ. وتوضيح ذلك: أنّ الفقيه إنّما يكون هدفه في استنباطه هو الوصول إلى القطع بالحكم، أو ما يقوم مقام القطع من أمارات أو اُصول شرعيّة أو اُصول عقليّة، وبعد تحصيل القطع لا يترقّب ـ بما هو فقيه ـ شيئاً آخر، فمباحث الأمارات والاُصول الشرعيّة والعقليّة وإن كانت من علم الاُصول؛ لأنّها دخيلة في القياس الفقهيّ ولو على مستوى تنجيز الحكم، لكن القطع لا يعتبر داخلاً في القياس الفقهيّ وإن كان هو أيضاً منجّزاً للحكم، وعلم الفقه شأنه شأن كلّ العلوم الاُخرى التي تكون الغاية القصوى فيها هي تحصيل القطع بالنتائج، وبعد تحصيل القطع لا يترقّب شيء آخر. هذا تمام الكلام في تعريف علم الاُصول.
contact the developer