ملاك الانبعاث عن التكليف في النظر العرفانيّ

ملاك الانبعاث عن التكليف في النظر العرفانيّ:

بقي شيء في المقام خارج عن حريم البحث الاُصوليّ، وهو: أنّ الوجوب والاستحباب، وكذلك الحرمة والكراهة كما يوجدان في حقل الشريعة كذلك يوجدان في حقل العقل العمليّ، أو الفضائل والرذائل العقليّة، فربّ شيء يكون حسناً عقلاً ولكن لا يجب في منظار العقل فعله، كالعفو الذي هو حسن عقلاً ولكنّه ليس واجباً، وإلّا لما كان القصاص حقّاً. والتفسير الذي حقّقناه للفصل بين الوجوب والاستحباب في حقل الشريعة لا يأتي في حقل الفضائل والرذائل العقليّتين؛ إذ لا يوجد هنا ـ ما دمنا مقتصرين في حقل العقل ـ مولىً آمر وراء أنفسنا يطلب منّا شيئاً، ولكن قد يرغب في نفس الوقت في مرخوصيّتنا وحرّيّتنا، فلابدّ لنا من تفسير آخر للفرق بين الوجوب والاستحباب في حقل الأحكام العقليّة بعد فرض البناء على مبنى واقعيّة الحسن والقبح العقليّين.

فهل نعود إلى التفسير باختلاف الدرجة ونقول: إنّ الحَسَن الشديد الحُسن هو الواجب، والقبيح الشديد القبح هو الحرام، وما بينهما متوسّطات، والوسط الحقيقيّ بينهما يكون مباحاً عقلاً، لايعدّ فضيلة ولا رذيلة، فكأنّ لدينا سُلّماً واحداً وقع في الدرج الأسفل النهائيّ منه أشدّ الرذائل المحرّمة، وفي الدرج الأعلى النهائيّ منه أشدّ الفضائل الواجبة، وبينهما متوسّطات يخفّ قبحها أو حُسنها بمقدار بُعدها عن أحد القطبين، ويكون الوسط الحقيقيّ في هذا السلّم هو رفّ المباحات؟!

إنّ هذا التفسير يشتمل على بعض المفارقات من قبيل:

۱ ـ إنّنا لا نمتلك حدّاً مشخّصاً لفصل الواجبات عن المستحبّات. فيا تُرى هل يفترض

لا حبّ الفعل ولا المصلحة الكامنة في الفعل. نعم، الحبّ والمصلحة في الفعل قد يتطلّبان من المولى أن يريدنا متقيّدين ومكبّلين ومتعبّدين خشية فوات المتعلّق؛ لأنّ انبعاث العباد من إرادته سبحانه للتقيّد وعدم الحرّيّة أكثر بكثير من انبعاثهم من مجرّد حبّه تعالى للمتعلّق؛ وذلك: إمّا بسبب قبح مخالفة الأوّل دون الثاني، وهذا هو توجيه مخالفة أهل العرفان للثاني أحياناً دون الأوّل، وإمّا بسبب أنّ الذي تكون في مخالفته العقاب هو الأوّل دون الثاني، وهذا هو توجيه مخالفة أهل العدالة للثاني أحياناً دون الأوّل.

والذي يناسب مقام أهل العرفان الحقيقيّ هو كفاية حبّه تعالى للمتعلّق للانبعاث إليه، وكذلك كفاية بغضه تعالى للمتعلّق للانزجار منه حتّى فيما إذا اقتضت الرغبة الملحّة للربّ تعالى حرّيّة العبد، وعدم تقيّده وإلزامه؛ والوجه في أنّ هذا هو المناسب لأهل العرفان أحد تعبيرين: إمّا لأنّ العارف بالله لايحبّ إلّا ما يحبّه الله، ولا يبغض إلّا ما يبغضه الله، فلا رغبة له أصلاً في ترك المستحبّ أو فعل المكروه. وإمّا (۱) لأنّه لو أخذ بالرخصة وترك المستحبّ، أو فعل المكروه، فقد تحقّق أحد الأمرين المحبوبين لله، وهو حرّيّته، ولو عمل بالمستحبّ وترك المكروه فقد تحقّق كلا المحبوبين لله، وهما: حرّيّته وملاك المتعلّق؛ لأنّه إنّما أتى بالمحبوب بمحض حرّيّته، لا بكونه مقيّداً مكبوتاً.

وبكلمة اُخرى: إنّ حبّ المولى لرخصة العبد وحرّيّته له معنيان:

أحدهما: حبّه لكونه في سعة عمليّة من المتعلّق، أي: أن يصل إلى ما يشتهيه نفسيّاً من فعل أو ترك، وهذا خارج عن بحثنا، ومرتبط بالمباحات التي لم تكن فلسفة إباحتها مجرّد عدم وجود ملاك للإلزام، بل كانت هناك مصلحة في التسهيل العمليّ للمكلّف بأن يصل


(۱) والتعبير الأوّل أولى عرفانيّاً من الثاني.

إلى ما يشتهيه، وليكن هذا معنىً آخر أو شعبة اُخرى لمصلحة التسهيل، وإلى هذا ينظر بعض الأدلّة الدالّة على ذمّ الالتزام بترك بعض المباحات كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ)(۱)، وقوله تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَة)(۲)، وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)(۳)، والتعبير الوارد في بعض الروايات: «إنّ الله يغضب على من لا يقبل رخصه»(٤)، وفي بعضها الآخر: «لأنّ الله عزّ وجلّ يحبّ أن يؤخذ برخصه كما يؤخذ بعزائمه»(٥).

وثانيهما: حبّه لمجرّد أن لا يكون العبد مُلزماً، أو أن لا يكون شاعراً بالإلزام، ويا حبّذا أن يفعل الفعل المحبوب لله بمحض اختياره ومن دون إلزام، وهذا هو المعنى الذي كان مقصوداً في بحثنا، وهذا طبعاً يلازم تقيّد العارف بالله بفعل المستحبّات وترك المكروهات، إلّا بمقدار ما يقع فيما بينها من التزاحم بلحاظ ضيق في قدرة العبد.

وممّا يبعث بالاستغراب: أنّ النصّ الذي يكون صحيحاً سنداً من نصوص: «أن الله يحبّ أن يؤخذ برخصه كما يؤخذ بعزائمه» ظاهره الأوّليّ وروده في مورد المكروهات،


(۱) سورة المائدة، الآية: ۸۷.

(۲) سورة الأعراف، الآية: ۳۲.

(۳) سورة التحريم، الآية: ۱.

(٤) البحار، ج ۸٠، ص ۳۳٥، آخر الحديث ٦.

(٥) البحار، ج ۹۳، ص ٥.

فقد روى في الكافي(۱) عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن اُذينة، عن فضيل بن يسار قال: «سمعت أبا عبدالله(عليه السلام)يقول لبعض أصحاب قيس الماصر... وعاف رسول الله(صلى الله عليه وآله)، أشياء وكرهها ولم ينه عنها نهي حرام، إنّما نهى عنها نهي إعافة وكراهة، ثُمّ رخّص فيها، فصار الأخذ برخصه واجباً على العباد كوجوب ما يأخذون بنهيه وعزائمه...».

وهذه الرواية لو أبقينا أصل ظهورها في النظر إلى المكروهات على حاله، لابدّ أن يحمل ما فيها من ضرورة الأخذ بالترخيص: إمّا على الأخذ التشريعيّ، أي: أنّ العبد يجب أن يتعبّد بالترخيص كما يتعبّد بوجوب الواجبات وحرمة المحرّمات وإن كان يتركه ترك إعافة وكراهة، وإمّا على ما نريد أن نشير إليه الآن من ضرورة التدرّج في تربية النفس، وعدم تحميل النفس ما لا تتحمّله من كثرة العبادات المستحبّة، وزجرها عن كلّ المكروهات ممّا قد يؤدّي إلى بغض النفس للعبادة، أو للالتزام بامتثال الأوامر الاستحبابيّة والنواهي التنزيهيّة.

وهناك روايات عديدة في ضرورة التدرّج مع النفس في تحميلها العبادات المستحبّة من قبيل:

۱ ـ ما ورد عن الصادق(عليه السلام) عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنّه قال لعليّ(عليه السلام): «يا عليّ، إنّ هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق، ولا تبغض إلى نفسك عبادة ربّك، إنّ المنبتّ ـ يعني المفرط ـ لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع، فاعمل عمل من يرجو أن يموت هرماً، واحذر حذر من يتخوّف أن يموت غداً»(۲).


(۱) اُصول الكافي، ج ۱، ص ۲٦٦ ـ ۲٦۷.

(۲) الوسائل، ج ۱، ب ۲٦ من مقدّمة العبادات، ح ۷، ص ۱۱٠ بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.

فقد روى في الكافي(۱) عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن اُذينة، عن فضيل بن يسار قال: «سمعت أبا عبدالله(عليه السلام)يقول لبعض أصحاب قيس الماصر... وعاف رسول الله(صلى الله عليه وآله)، أشياء وكرهها ولم ينه عنها نهي حرام، إنّما نهى عنها نهي إعافة وكراهة، ثُمّ رخّص فيها، فصار الأخذ برخصه واجباً على العباد كوجوب ما يأخذون بنهيه وعزائمه...».

وهذه الرواية لو أبقينا أصل ظهورها في النظر إلى المكروهات على حاله، لابدّ أن يحمل ما فيها من ضرورة الأخذ بالترخيص: إمّا على الأخذ التشريعيّ، أي: أنّ العبد يجب أن يتعبّد بالترخيص كما يتعبّد بوجوب الواجبات وحرمة المحرّمات وإن كان يتركه ترك إعافة وكراهة، وإمّا على ما نريد أن نشير إليه الآن من ضرورة التدرّج في تربية النفس، وعدم تحميل النفس ما لا تتحمّله من كثرة العبادات المستحبّة، وزجرها عن كلّ المكروهات ممّا قد يؤدّي إلى بغض النفس للعبادة، أو للالتزام بامتثال الأوامر الاستحبابيّة والنواهي التنزيهيّة.

وهناك روايات عديدة في ضرورة التدرّج مع النفس في تحميلها العبادات المستحبّة من قبيل:

۱ ـ ما ورد عن الصادق(عليه السلام) عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنّه قال لعليّ(عليه السلام): «يا عليّ، إنّ هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق، ولا تبغض إلى نفسك عبادة ربّك، إنّ المنبتّ ـ يعني المفرط ـ لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع، فاعمل عمل من يرجو أن يموت هرماً، واحذر حذر من يتخوّف أن يموت غداً»(۲).


(۱) اُصول الكافي، ج ۱، ص ۲٦٦ ـ ۲٦۷.

(۲) الوسائل، ج ۱، ب ۲٦ من مقدّمة العبادات، ح ۷، ص ۱۱٠ بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.

contact the developer